«معنى إسبانيا» لأونامونو: إما الحرية والانفتاح وإما الانغلاق والموت

  • 3/3/2016
  • 00:00
  • 18
  • 0
  • 0
news-picture

هل كان في إمكان أحد، في ذلك الحين، سوى الفيلسوف والكاتب الإسباني ميغويل دي أونامونو، أن يكتب تلك النصوص الجريئة التي نشرت في العام 1916 مجموعة تحت العنوان: «معنى إسبانيا»، بعد أن نشرت متفرّقة خلال الأعوام السابقة في مجلة «إسبانيا مودرنا»؟. تلك السنوات، بالذات، كانت في أوروبا مرحلة قرع الطبول واستنهاض الهمم الجماعية والقومية، استعداداً لخوض حرب كان الكل يخشاها، والكل يريدها، وكانت واحدة من أولى الحروب المتعددة القوميات في تاريخ البشرية. وحدهم، في ذلك الحين، الاشتراكيون اليساريون والديموقراطيون كانوا يقفون ضد الحرب، أية حرب كانت، ومع السلام، أي سلام كان. لكن أونامونو لم يكن اشتراكياً أو يسارياً. كان مستقلاً، بل يميل في أفكاره ناحية اليمين والاتجاه الصوفي. غير أنه كان فناناً ومفكراً، ينتمي الى ما كان يُسمى في ذلك الحين «جيل 1898» ذي النزعات الإنسانية العامة والأفكار النهضوية، والذي كانت تحرّكه أزمة سياسية وروحية تعصف بأوروبا كلها. وإذا كان أونامونو عبّر في تلك الدراسات عن نزعة معادية للانغلاق القومي ورفض رياح الخارج، فلأنه انطلق من حس إنساني عام، خصوصاً من التراث الإسباني نفسه، تراث الإنسان الذي كان سرفانتس عبّر عنه في شكل رائع في «دون كيشوت»، وانطلاقاً من موقف معاد تماماً لروح محاكم التفتيش التي كانت حاضرة وفاعلة في الذهنية والمجتمع الإسبانيين، تحت سلطة كنيسة لا ترحم. ومن المؤكد أن أونامونو عرف في دراسات ذلك الكتاب أن يؤكد أن في وسع المرء أن يكون تقدمياً من دون أن يكون اشتراكياً أو يسارياً، ومعادياً لسياسات الكنيسة من دون أن يكون ملحداً، وإنسانياً من دون أن يرفض تراث بلاده. > في اختصار، كان كتاب أونامونو، ذاك، كتاب معركة في سبيل الإنسان وقبول الآخر، والانفتاح على الخارج ضداً على انغلاق على الذات كئيب، كانت تمثله في إسبانيا في ذلك الحين القوى التي ترى كل انفتاح على التقدم الأوروبي، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، إنما هو من قبيل فتح الأبواب واسعة أمام شياطين تدخل «كل ما هو ناصع داخل الذات» وتدمّره. ونعرف طبعاً أن تلك القوى ستناصر فرانكو لاحقاً وتتحالف مع نازيي ألمانيا وفاشيي إيطاليا، غير أن هذه حكاية أخرى لاحقة لن يعيش أونامونو ليشهد سوى بداياتها. > يتألف كتاب «معنى إسبانيا» من خمس دراسات متفاوتة الطول، لكنها جميعاً تصبّ في بوتقة واحدة، وإن كانت كتبت في أوقات متفرقة. في الدراسة الأولى، وعنوانها «التراث الخالد»، يشنّ أونامونو هجوماً فكرياً عنيفاً ضد أصحاب نزعة «الكاستيسيزمو»، المنادين بالنقاء القومي في مختلف سماته. وفي مقابل أفكار هؤلاء الضيقة والانغلاقية، يمجد أونامونو القيم الإنسانية والكونية التي يصل فيها كل ما هو «عارض» و «عابر» و «موقت» الى أعلى درجات سموه وطهرانيته، عبر تمكنه «من تدمير ذاته بذاته» في صورة متواصلة. وفي هذه الدراسة العنيفة، يخلص أونامونو الى تأكيد سيستعيره منه لاحقاً كبار المفكرين الإنسانيين في القرن العشرين، وهو أن «ما هو إنساني هو وحده تراثي». > في الدراسة الثانية وعنوانها «العرق التاريخي: قشتالة»، يقدّم أونامونو وصفاً معمقاً للسيرورة التاريخية التي تم بها توحيد إسبانيا تحت سلطان قشتالة، التي «إذ تجاوزت كل الفوارق الإقليمية، تمكنت من أن تحقق أو تصوغ وحدة وطنية، موفِّرة للبلد كله قاسماً روحياً مشتركاً». غير أن هذه الروح، وكما يؤكد أونامونو في دراسته التالية «الروح القشتالية»، عجزت عن تحقيق ما كان يجب عليها تحقيقه: إيجاد التناسق الحميم بين ما هو مثالي وما هو واقعي، وهويتهما الضمنية، ذلك أن هذه الروح الازدواجية في طبيعتها، وإذ تلعب دور المحرك والدافع في كل تجليات الفن والفكر، تنحو وفي صورة دائمة الى المزج بين ضروب التطرف: بين الواقع والمثال، بين السماء والأرض، وبين ما هو مطلق وما هو نسبي. في اختصار، تمزج بين دون كيشوت وسانشو بانشا. وبالنسبة الى أونامونو، فإن ضروب التطرف هذه تتصل ببعضها بعضاً في بوتقة التصوف. وهو إذ يصل الى هذه النتيجة ينتقل في الدراسة التالية المعنونة «التصوف والإنسانية»، الى بحث هذا الأمر مؤكداً أن تلك الضروب تذوب في مثالية واقعية، ليست في عمقها سوى أمْثَلَة للواقع. وهذا «ما يجعل الحس الصوفي طبيعة ثانية بالنسبة الى الروح الإسبانية»، التي يرى أونامونو أن ممثلها الرئيس إنما هو القديس يوحنا الصليب، كبير قديسي إسبانيا على مدى تاريخها. وانطلاقاً من أفكار هذا القديس، يصل أونامونو الى تأكيد أساسي في كتابه وهو أن الروح الإسبانية لن يحدث لها أبداً أن تسقط في ثنايا فوضاها، وذلك بفضل الحركة الإنسانية التي عرفت دائماً كيف تصوغ اعتدالاً في نشوء النزعة الفردية المغالية، يعود الفضل فيه - أي في الاعتدال - الى ذلك الإحساس العميق بكل ما هو إنساني وطبيعي، على غرار ما أنتج عصر النهضة قبل ذلك بنصف ألفية. والى أن تلك المقدمات كلها توصل أونامونو الى تأكيد أساسي مفاده أن إسبانيا لا تصل أبداً الى ذرى عظمتها إلا حين تنفتح على جهات العالم الأربع وتنشر روحها في ذلك العالم كله. > لكن كاتبنا يتنبّه الى أنه «في اللحظة التي تصل إسبانيا الى أعلى درجات قوتها، تأتي الشروط التاريخية المرتبطة بمهمتها تلك، لإجبارها على إغلاق أبوابها: وهكذا تأتي النزعة المضادة للإصلاح (في الفاتيكان وضد الإصلاحية البروتستانتية اللوثرية) لتحل محل النبض الخلاق والكوني، ما يعيد إسبانيا الى انحطاطها. وهذه الـ «إسبانيا» المنحطة هي التي يعبر أونامونو في الدراسة الخامسة والأخيرة المعنونة «إسبانيا الحديثة»، عن خوفه من حلولها. ذلك أنها، في الأحوال كافة، تحمل مرارة إرث ماضيها. وهكذا لا يعثر التفتت الفردي على تعويض في النزعة الخلاقة، بل ينحو - على العكس من ذلك - الى تنمية القوى المشتتة: وهكذا تتمكن روح محاكم التفتيش، الحاضرة دائماً وبكل قوة، من تخويف الناس من الأفكار، ساعية الى إحداث تماسك اجتماعي ضد كل ما هو إنساني، ضد الآخر وضد التقدم. فهل يعني هذا أن كل شيء في إسبانيا قد مات بفعل ذلك التطور؟ أبداً... ذلك أن أونامونو كان يرى في ذلك الحين أن المستقبل نفسه موجود داخل الشعب الذي «سينتفض واقفاً وقوياً، حين تصل الرياح التي تهبّ عليه من أوروبا وتوقظه». > من الواضح هنا، أن تدخل أونامونو في السياسة الى هذه المستويات «إنما كان نابعاً من الأزمة العامة التي كانت تستشري داخل إسبانيا، في وقت كانت بقايا إمبراطوريتها الكولونيالية تتفتت»، كما كتب مؤرخو سيرة أونامونو ودارسو أعماله، حيث أن ذلك الواقع هو ما دفع هذا المفكر الى دراسة سيرورة الانحطاط الإسباني في مجملها. > ميغويل دي أونامونو، الذي وصفه الإيطالي جيوفاني بابيني، بأنه «الذهن الأكثر تمثيلاً لإسبانيا المعاصرة. فهو لبلاده شبيه بما كانه كارلايل لبريطانيا، وفيختة لألمانيا»، كان شاعراً وكاتباً وفيلسوفاً، وروائياً أيضاً. وهو ولد في بلباو العام 1864، ومات العام 1936 في سالامانكا. وهو أمضى في صباه وشبابه سنوات صعبة، لا سيما في الجامعة حيث كانت أفكاره المتمردة غير قادرة على إقناع الآخرين، ذلك أن الحدس لديه كان يسبق العقلنة. وهو طوال حياته عاش عيشاً عسير الحال، إذ إنه أنجب كثيراً واضطر الى العمل الدائم ليعيل عائلته. وهو إذا كان درّس لفترة، فإنه آثر دائماً أن يكتب وينشر، وهو كان نموذجاً فذاً لكتاب المقالات المعمقة وفي لغة واضحة جزلة. ولقد هاجر في العام 1924 الى باريس، حيث نشر «احتضار المسيحية» الذي يعتبر واحداً من أهم كتبه. ولئن كان جان كاسو يقول عنه «إننا مع أونامونو نصل الى قاع العدمية الإسبانية»، فإن أفكاره لقيت قبولاً وأثّرت كثيراً في المجتمع الإسباني وإن صاحبها سوء فهم متواصل. ولقد مات أونامونو، إبان اندلاع الحرب الأهلية، مخلفاً ذكرى طيبة وعشرات الدراسات والكتب، من بينها «حس الحياة المأسوي» و «مسيح بيلاسكويث».

مشاركة :