لا يمكن التعاطي مع الأزمة السياسية الحاصلة في إسرائيل، على خلفية محاولة حكومة الائتلاف المكونة من تيارات اليمين القومي والديني، وهي تضم أحزاب ليكود والصهيونية الدينية وشاس ويهوديت هاتوراه، برئاسة بنيامين نتنياهو، باعتبارها أزمة عادية، أو طارئة، إذ هي أزمة سيكون لها أبعادها الداخلية والخارجية، بما يشمل رؤية إسرائيل لذاتها ولدورها في المنطقة، وعلاقاتها الخارجية سيما مع حلفائها التاريخيين في الدول الغربية والولايات المتحدة. في الواقع فإن إسرائيل لم تشهد أزمة سياسية داخلية كالتي تشهدها الآن، سيما مع محاولة نتنياهو استغلال أغلبيته البسيطة في السلطة التشريعية (الكنيست)، وهي تقدر بـ 64 نائبًا، من 120 عضوًا في الكنيست، لإحداث ما يعتبر لدى المعارضة انقلابًا سياسيًّا، وهو يتمثل بالإطاحة بالسلطة القضائية، والذي يتيح لنتنياهو وحكومته التحكم بالسلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية). فوق ذلك فإن خطوة نتنياهو وائتلافه الحكومي تؤدي إلى إحداث صدع كبير، عمودي، في المجتمع الإسرائيلي بين تياري العلمانية والديمقراطية والليبرالية (اللصيقة بالغرب) وبين تيار اليهودية الدينية اليمينية والشعبوية، والأهم من ذلك أن هذا التطور يؤدي إلى تصعيد مكانة اليهود المتدينين على حساب الفئات الأخرى، الأكثر فاعلية في إسرائيل، مع علمنا أن منتسبي التيارات الأصولية الدينية لا يخدمون في الجيش ولا يدفعون الضرائب، وفوق ذلك فهم يتمتعون بامتيازات على حساب اليهود الآخرين (العلمانيين). وكان رئيس المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، لخص ما يجري باعتباره أن بنيامين نتنياهو أسقط دولة إسرائيل، وذلك تلافيًا لسقوط حكومته، بالنظر إلى التهديد الذي لوحت به التيارات الدينية، التي وجدت فرصتها في هذه اللحظة التاريخية لتعزيز وضعها في إسرائيل مقابل التيارات الأخرى. وفي المحصلة فإن نتنياهو في هذا الخيار يُغلِّب طابع إسرائيل كدولة دينية على طابعها كدولة علمانية، ويغلب طابعها كدولة عنصرية على طابعها كدولة يهودية، كما يغلب طابعها كدولة يهودية على طابعها كدولة ديمقراطية. يمكن لفت الانتباه هنا، أيضا، إلى ثلاث مسائل، الأولى، أن نتنياهو روج لمشروعية القانون الجديد بدعوى امتلاكه أغلبية في الكنيست، وهو ادعاء ينطوي على تحايل، إذ لا يحق لأغلبية ما في نظام ديمقراطي إدخال تغييرات جوهرية في النظام السياسي، أو اتخاذ قرارات تاريخية، من موقع أغلبية نسبية، على نحو ما يحصل في الواقع الإسرائيلي اليوم، إذ أن ذلك يتطلب أغلبية من ثلثين، أو من 75 بالمئة، أو بالذهاب نحو استفتاء، أو بحسب ما يتم الإجماع عليه في دستور، ومشكلة إسرائيل هنا افتقادها إلى دستور، مع ذلك فأغلبية 64 من 120 لا تمنحه هذا الحق، لأن ذلك يعطي لأية حكومة أخرى، لاحقة، أن تعدل في القوانين الأساسية بحسب مصالحها. المسألة الثانية، أن القوة التصويتية للائتلاف الحاكم هي بمجموع 2.305.234 صوتًا، من مجموع الناخبين المصوتين الـ 4.793.641 في الانتخابات للكنيست الحالية (الـ 25)، ويستنتج من ذلك أن ثمة قوة تصويتية أكبر من القوة التصويتية لمعسكر نتنياهو، وهي بمجموع 2.488.406 أصوات، لكن ذلك المعسكر خسر 288 ألف صوت (150 ألف صوت لحزب ميريتس، و138 ألفًا للتجمع الوطني الديمقراطي)، بحيث تمت إضافة تلك الأصوات الضائعة، التي لم تصل إلى نقطة الحسم، إلى القوائم الفائزة، وهو ما يفسر رجحان كفة التيارات اليمينية، القومية والدينية، وهو ما أفاد نتنياهو ومعسكره، علما بأن مجموع أصحاب حق الاقتراع في إسرائيل بلغ 6.788.804 أصوات، أما نسبة المشاركة في الانتخاب فهي 70.63 بالمئة، بمعنى أن حوالي 30 بالمئة من الناخبين لم يدلوا بأصواتهم وفقًا للأرقام المذكورة سابقا. أما المسألة الثالثة، فهي تفيد بأن نخبة المجتمع الإسرائيلي، والدولة العميقة، والفئات الأكثر حيوية وفاعلية فيه، وهذا يشمل الجيش، والنقابات (الهستدروت، واتحاد الصناعيين)، وأصحاب الشركات الكبرى، وضمنها شركات الهاي تيك، والطبقة الوسطى، تقف في الصف المناهض لنتنياهو. للتذكير فإن إسرائيل منذ قيامها، قبل 75 عاما، ظلت تشتغل على طمس تناقضاتها الداخلية، بين العلمانيين والمتدينين، وبين الشرقيين والغربيين، وبين الأغنياء والفقراء، والتي نشأت معها، كدولة مصطنعة، قامت على جلب مستوطنين من مختلف أنحاء الدنيا، ومن مختلف الثقافات والقوميات، وذلك بتوحيد اليهود القادمين على محور الهوية الدينية، رغم علمانية الدولة، والعداء للخارج، لكن هذين العاملين باتا اليوم خارج المعادلات، الأول، في سعي التيار الديني لإثبات ذاته، والثاني بحكم التحولات الحاصلة في المنطقة، لجهة التطبيع مع إسرائيل وعملية التسوية مع الفلسطينيين، بعد اتفاق أوسلو، وإقامة السلطة الفلسطينية (1993). عموما يفترض مراقبة ما يحدث في إسرائيل في الأيام التالية، فهذا حدث تاريخي سيكون له آثاره الكبيرة، على هذه الدولة وعلى شكل وجودها في المنطقة.
مشاركة :