حسناً فقد بات للفلسطينيين حكومة، في الضفة والقطاع المحتلين (1967)، بل حكومتان، أو بالأحرى سلطتان، واحدة في الضفة والثانية في غزة، مع رئيس سلطة، ورئيس للحكومة ووزراء وسفراء وأجهزة خدمية وأمنية، وهذه السلطة يقوم رئيسها بإدارة دفة الحكومة، وهو ما ذكر به، مؤخّراً، قبول الرئيس الفلسطيني استقالة رامي الحمد الله ووزارته وتكليف محمد اشتية، بمنصب رئيس الوزراء، بدلاً عنه. المشكلة أن كلي السلطتين ليس لهما أية سلطة على الأرض والموارد والمعابر والحركة التجارية والتعاملات النقدية، وأن سلطتهما فقط على الشعب الفلسطيني، في غزة والضفة، أي على جزء من الشعب الفلسطيني في جزء من الأرض الفلسطينية، وأن السلطة تعتمد في ميزانياتها ورواتب منتسبيها (في السلكين المدني والأمني) على الدعم الخارجي، المقدم من الدول المانحة، ومن أموال المقاصة التي تجبيها إسرائيل عن الواردات الفلسطينية، وكل ذلك ليس تفصيلا ثانويا، أو عارضا، وإنما هو يمثل جوهر الفكرة الإسرائيلية المتعلقة بترسيخ هيمنة إسرائيل على الفلسطينيين، وإيجاد جسم فلسطيني يجنّبها الاحتكاك بهم، أو يحرّرها من العبء السياسي والأخلاقي والأمني والاقتصادي للسيطرة عليهم، مع أجهزة أمنية وخدمية وعلاقات خارجية، بمرتبة حكم ذاتي، سواء سمي دولة أو إمبراطورية سيان، ما يخدم فكرتها عن خلق واقع من الاحتلال المريح والمربح. المشكلة الثانية التي يفترض التذكير بها هنا تتعلق بأن تشكيل السلطة، وبحكم طريقة إدارة الوضع الفلسطيني، أدى إلى تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة، تحت الاحتلال (كما قدمنا)، وضمن ذلك حصر ولايتها بالفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ما يعني إخراج اللاجئين في بلدان اللجوء والشتات من إطار المعادلات السياسية الفلسطينية، كما يعني ذلك تهميش منظمة التحرير، التي يفترض أنها الكيان السياسي المعنوي للفلسطينيين، والمعبر عن قضيتهم، وعن وحدتهم كشعب، وقائد كفاحهم من أجل حقوقهم الوطنية المشروعة. والمعنى أن إسرائيل، في منحها سلطة للقيادة السياسية للشعب الفلسطيني، بموجب اتفاق أوسلو (1993)، فعلت ذلك لتجويف الحركة الوطنية الفلسطينية، واستدراجها للتحول من اعتبارها نفسها ممثلة لكل الفلسطينيين، ولقضيتهم التي نشأت مع الهجرة اليهودية والاستيطان وإقامة إسرائيل (1948)، إلى مجرد حركة استقلال، أو حركة معنية بجزء من أرض فلسطين لجزء من شعب فلسطين مع جزء من حقوق الفلسطينيين. القصد من هذا العرض التنبيه أن الفلسطينيين، من الذين يسيطر عليهم الفكر الفصائلي أو العصبية الفصائلية، يذهبون في منازعاتهم وخلافاتهم وصراعاتهم، في أغلب الأحوال، من قاعدة السلطة، أو الخلاف على السلطة، وفقا للمصالح الفصائلية وذلك بدلا من الانطلاق من قاعدة إعادة الاعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة قضيته، ولحركته الوطنية باعتبارها حركة تحرر وطني، الأمر الذي يفضي إلى استمرار المنازعات والانقسامات والاختلافات، ولا يصل إلى أي طريق أو إلى أي حل، كما شهدنا في تعثر كل اتفاقات إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، في مكة والدوحة وصنعاء والقاهرة وغزة وموسكو (مؤخراً)، ما يعني أنه لا فائدة ترجى إطلاقا من بحث التوافقات على أرضية السلطة. في الغضون، وطالما أننا في معرض الحديث عن الحكومات، قد يفيد التذكير بأن حكومة اشتية ستكون هي الحكومة الـ 18، عند الفلسطينيين، وقد تعاقب على رئاسات الحكومة كل من، ياسر عرفات (خمس حكومات)، ومحمود عباس (حكومة واحدة)، وأحمد قريع (ثلاث حكومات)، وإسماعيل هنية (حكومتان)، وسلام فياض (ثلاث حكومات)، ورامي الحمد الله (ثلاث حكومات). وأن أطول فترة لرئاسة الحكومة كانت للرئيس الراحل ياسر عرفات (9 سنوات)، وأقصرها كانت للرئيس محمود عباس (6 أشهر)، حيث قدم استقالة مدوية (أيلول 2003)، احتجاجا على ما اعتبره استهدافا له ولحكومته، وإضعافا لها وتدخلا في شؤونها (راجع خطاب استقالة محمود عباس في العدد 56 من مجلة الدراسات الفلسطينية). طبعا هذا العدد الكبير من الحكومات، في غضون ربع قرن، ضم عدد هائلا من الوزراء، أكثر من 400 وزير، علما أن ثمة بعض وزراء تكرر وجودهم في أكثر من وزارة. على ذلك فإن القصة ليست في شخص رئيس الحكومة، وإنما القصة في كيفية ربط ذلك بإعادة بناء البيت الفلسطيني (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية ومختلف مؤسسات منظمة التحرير)، والرؤية السياسية التي تنبني عليها عملية البناء تلك، والتي تتعلق باستعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر وطني. وباختصار ثمة ثلاثة عوامل لاستنهاض الوضع الفلسطيني؛ أولها، إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، على أسس وطنية تشاركية وتمثيلية وديمقراطية ومؤسسية، وبواسطة الانتخابات. وثانيها، يتعلق بتوفر الإرادة لاعتماد الوسائل الديمقراطية، ووسائل الحوار، لحل الخلافات الفصائلية، بدلا من اعتماد القوة العسكرية والأجهزة الأمنية في حسم الخلافات الفصائلية وفي ضبط الحراكات الشعبية المناهضة لذلك. وثالثها التوافق على رؤية وطنية جمعية جديدة، بعد إخفاق الخيارات التي تم اعتمادها طوال المرحلة الماضية، سواء تعلقت بالمفاوضة أو بالمقاومة، بالشكل الذي تم انتهاجهما به على ضوء التجربة الماضية، رؤية تتأسس على التطابق بين قضية فلسطين وشعب فلسطين وجغرافية فلسطين، وعلى التمسك بقيم الحقيقة والعدالة والحرية والمواطنة، كأساس للحقوق الفردية والجمعية للفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم. ستذهب حكومة وستأتي غيرها، سيذهب رئيس أو رئيس حكومة ويأتي غيرهما، لكن قضية إعادة البناء ستبقى أكثر الحاحا، وحجر الزاوية، لأي فكرة تتعلق باستنهاض الوضع الفلسطيني.
مشاركة :