الفلاسفة بين العقل والعاطفة

  • 7/27/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يبقى الحب أعمق تجربة وجدانية عرفها الإنسان، وقد احتار في تشخيصها الشعراء والأدباء والفنانون والفلاسفة والعلماء، فعبّر كل منهم عنها بطريقته ومن زاويته التي يراها. فقد تغنى الشعراء بالحب في قصائدهم، وكتب عنه الأدباء بأفئدتهم، ورسمه الفنانون بريشاتهم ولوّنوه بألوانهم. أما الفلاسفة، فقد تأملوه بعقولهم، وبحثه العلماء بأدواتهم، فلم يحط بوصفه أحد، لا الشعراء ولا الأدباء ولا الفنانون. على أن علامة الاستفهام التي تطرحها هذه السطور: لماذا كان حظ غالبية الفلاسفة وعدد محسوس من المفكرين والعلماء قليلاً جداً في مجال الحب والرومانسية، وفي الوصل والوصال؟ الجواب قد يكون أكبر وأوسع من أن نحيط به في مساحة محدودة، ولاسيما أن هناك بالفعل أسماء لامعة في سماوات الفكر والفن والفلسفة، عاشت العزوبية والوحدة قهراً لا قدراً، بمعنى أن الحياة لم تعطها فرصة لتذوق حياة عاطفية هانئة. بدءاً من هيرقليطس مروراً بأفلاطون وصولاً إلى ديكارت واسبينوزا، ونيتشه وشوبنهاور، ولابينتز وفولتير، وباسكال، وجان جاك روسو.. فكل هؤلاء وغيرهم كثيرون عاشوا عزاباً منفردين. والسؤال: ما الذي كان ينقصهم ليجسدوا كتاباتهم عن الحب والعشق والهوى، في حياة عاطفية ناجحة ومترابطة؟ يذهب البعض إلى أن هناك ما يشبه النحس العاطفي الذي يطارد بعض أصحاب العقول، وقد أصدر الأديب المصري الراحل طاهر أبو فاشا، منذ نصف قرن تقريباً، كتابه الشهير المعنون «الذين أدركتهم حُرفة الأدب»، وكلمة «حُرفة»، هنا تعني البلاء أو الابتلاء، وليس بمعنى حرفة أي مهنة. ويربط أبو فاشا في كتابه ذاك بين حيوات أدباء ومفكرين وفلاسفة، وبين ما عانوه من صعاب في الحياة، وما قاسوه من حرمان في أن يعيشوا تجارب رومانسية حقيقية، ويدلل بشكل خاص بالكاتب والأديب والشاعر المصري الشهير كامل الشناوي. تجارب عاطفية غير أن هذا التبرير قد يقصر في مواجهة آراء أخرى تقول، إن هؤلاء وأولئك قد جعلوا أفكارهم وأعمالهم الذهنية نصب أعينهم، ولم يعطوا فسحة من الوقت لعواطفهم، وإن كان عدد واضح منهم قد خبر تجارب عاطفية قدر لها الفشل الذريع في نهاية المشهد، ما دعاهم للانصراف عن عالم العاطفة، والرغبة الكاملة والشاملة في التفرغ للتفكير والتأمل. وقبل ذلك كتب الإمام العلامة أبو الوفاء بن عقيل (1040-1119) ذات مرة يقول: «العشق مرض يعتري النفوس العاطلة والقلوب الفارغة، كما أنه ليس من أدواء الحصفاء الحكماء، إنما هو من أمراض.. الذين جعلوا دأبهم ولهجتهم متابعة النفس، وإرخاء عنان الشهوة»! أيكون ما قاله ابن عقيل أحد أسباب انصراف هؤلاء عن الزواج وعن الأسرة؟ ربما يكون الأمر على هذا النحو لدى بعضهم على الأقل، فعلى سبيل المثال نجد فيلسوفاً ألمانياً عملاقاً بوزن إيمانويل كانط (1724-1804)، يحذر طوال حياته من مغبة الوقوع في علاقات غرامية، وإن كان قد أحب مرة واحدة فقط فتاة من بني بلده، ولكنه فضل بقرار شخصي أن مشروعه الفلسفي أنفع له، وللقادمين من بعده، فأنهى الأمر قبل أن يجد نفسه مرتبطاً بمواثيق الارتباط. ومن أصحاب الحظ السيئ الذين تركت الحظوظ أيضاً طعنة غائرة في قلوبهم، الفيلسوف الهولندي، «باروخ سبينوزا» (1632- 1677) الذي يعد من أهم فلاسفة القرن السابع عشر. وأحب سبينوزا ذات مرة فتاة هولندية، ولكن عائلتها رفضته، وغالب الظن أن ذلك حدث بسبب انتمائه الديني، حيث كانت هولندا البروتستانتية، تحمل الكثير من العداء لليهود ومنهم سبينوزا، وقد مات حسيراً، مريضاً بداء الرئة، متألماً من جراء تجربة عاطفية فاشلة في سن الرابعة والأربعين. وبالمضي قدماً تجاه أحد أهم العقول الفرنسية، جان جاك روسو، (1712- 1778)، الكاتب والأديب والفيلسوف، الذي ساعدت فلسفته في تشكيل الأحداث المهيئة لقيام الثورة الفرنسية، بل إنه يعد لدى البعض صاحب الرؤية المبكرة لمنظمة «الأمم المتحدة»، فقد عاش جل عمره مع امرأة لم يحبها، ولهذا على رغم أنه من أكثر الذين كتبوا عن تربية الأطفال، فقد أودع أبناءه الشرعيين أحد الملاجئ، وكأنه كتب عليه البقاء في الشقاء دفعة واحدة! أما الفليلسوف الفرنسي الآخر المعروف بأبي الفلسفة الحديثة، رينيه ديكارت (1596-1650)، الذي يعتبره كثيرون صاحب أهم إرث فلسفي أوروبي، فقد كانت له أكثر من علاقة عاطفية. أما المثير جداً، وما يستدعي قراءات تحليلية، فهو قدرة ديكارت على الفصل بين ما يتصل بشهواته وغرائزه من جهة، وبين عقله المفكر ورؤاه ونظرياته الفلسفية عالية وغالية القيمة، والباقية بقوة إلى اليوم من جهة أخرى. نهاية ماركس ثم نصل إلى المفكر اليساري الأشهر كارل ماركس (1818- 1883) الذي كانت حياته مع بيرتا زوجته نوعاً من العذاب المقيم، على رغم إنجابه منها ستة أولاد، فلم يعرف الهناء ولا السعادة العاطفية أبداً طوال حياته، وانتهت أيامه المعذبة بشيخوخة غير مطمئنة، وماتت زوجته قبل وفاته بعام، ويُقال إنه عندما ذهب هو وأولاده الستة لكي يدفنوها، عثر فوقع في حفرة قبرها، ومنذ ذلك الوقت إلى يوم وفاته، انطفأت حماسته، ولم يعد يهتم بشيء في هذا العالم. ولكن، هل لنا أن نطالع الأسماء المتقدمة ونغفل التوقف عند أحد أهم فلاسفة القرن التاسع عشر الألمان، الذي ترك بصمة واضحة في سياقات التشاؤم والعدمية إن جاز التعبير؟ ويتعلق الحديث هنا بفريدريك نيتشه (1844-1900)، الفيلسوف والشاعر والملحن واللغوي والباحث في اللاتينية واليونانية، الذي كان لعمله تأثير عميق في الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث. ومن أقوال نيتشه المثيرة، والتي تتقاطع مع سطور قصتنا هذه قوله: «إن الفيلسوف الحقيقي يرفض الارتباط ويتهرب منه بكل هلع ورعب». وقد يتساءل المرء: ما الذي يدفع نيتشه لمثل هذا التعبير، وهو الذي عرفت عنه صلته مع حبيبته سالومي التي ضاعت منه؟ ذهب نيتشه في طريق الزعم بأن الارتباط قد يقف كعقبة كأداء تمنعه من الوصول للقمة، أي قمة الفكر والإبداع. لقد قص علينا المؤرخ الأميركي «غرفين د. بالوم» مأساة نيتشه، وقصة الحب الوحيدة والقصيرة التي عاشها مع الأديبة والمحللة النفسية الروسيّة «لو سالومي» بعد أن جمعهما الصديق المشترك الناقد الأخلاقي «بول ري» عام 1882. أحب نيتشه «سالومي» بعمق وعنف وعفة معاً، غير أن العلاقة انتهت بسبب صديقه «بول ري» الذي أحب سالومي أيضاً. كما ساهمت «إليزابيث» أخت نيتشه، بشكلٍ كبير، في تدمير قصة حب أخيها الأصغر، الذي بقي مكتئباً وحزيناً لعدة سنوات بسبب ضياع حبه، واعتقاده بأنه تعرض للخيانة. غير أن نيتشه استطاع أن يحول المحنة إلى منحة، فقد دوّن في تلك الفترة كتابه الشهير «هكذا تكلم زرادشت»، فقد شعر بوهن الإنسان المفكر والفيلسوف أمام عاطفة الحب الإنساني والوجداني، ولهذا انطلق باحثاً عن ضرورة ولادة الإنسان الخارق. مي زيادة وجبران لا يمكننا أن نغفل عدداً وافراً من أدباء ومفكري العالم العربي الذين عاشوا هذه التجربة المرّة، وربما في مقدمتهم يأتي الكاتب والشاعر، الفنان والرسام، متعدد المواهب، قليل الحظ قولاً وفعلاً، جبران خليل جبران (1883- 1831). فقد جبران في بدايات حياته في لبنان الحب الأول، حيث رفضته عائلة حبيبته، وفضلت ابن أخ لرجل دين في قريته عليه، ما دفعه، ضمن أمور عدة أخرى إلى الهجرة عن لبنان. وفي المهجر، اتصل حبل الود مع فاتنة الأديبات العربيات في ذلك الوقت مي زيادة، ولم يقدر له أن يلتقيها وجهاً لوجه، وإن جمعت بينهما عاطفة عارمة، تمثلها في الكثير من أدبه وشعره ونثره. عاش جبران في كنف سيدة ثرية تنفق عليه من مالها، وإن لم يربط الحب قلبيهما ساعة واحدة، ليرحل حزيناً كسيراً من غير زوجة أو ولد، في رحلة اغتراب عن النفس والوطن. ولعل من متناقضات الحظ كذلك أن صاحبته في الحب العذري، وراء البحار، مي زيادة، تلك التي عرفت بصالونها الأدبي الشهير في مصر، وقد أحبها جُل الأدباء العرب حينها، لم يكن حظها يفوق حظه، بل تعرضت لمحن وأنواء وأجواء دفعت بها للعصفورية (محل الأمراض العقلية في لبنان) ذات مرة، قبل أن يتم إنقاذها لترحل بدورها وحيدة القلب. والسؤال مجدداً: أي سر جمع كل هؤلاء، وهل ترجيح العقل في مواجهة القلب والعاطفة هو السبب...أهو انتصار الفكر في مقابل الحب؟ ربما تلزمنا العودة للوقوف عند نماذج مغايرة، من مفكرين وفلاسفة جمعوا الحسنيين، وكيف قدر لهم ذلك وهم أكثر بكثير.

مشاركة :