إن الاهتمام بالقراءة وجعلها عادة يومية متأصلة عند النشء والاجيال الجديدة الصاعدة نابع من الإيمان بأهميتها ودورها الطليعي في صقل شخصيتهم في جميع المجالات الاجتماعية والنفسية والعاطفية والمعرفية، فهي تسهم في تنمية مهارات التفكير الناقد والإبداع، والثقة بالذات والتعلم الذاتي، وتعزز قيم التنوع الفكري والثقافي لديهم، فهي حجر الأساس لبناء أجيال الغد، قادة المستقبل، صناع الأمل. فالقراءة نور للعقل وغذاء للروح وطريق للمعرفة ومتعة للنفس، وكلما قرأ الإنسان اتسعت مداركه ونمت شخصيته وتطورت ثقافته، وزاد تهذيبه واستطاع أن يفرق بين الخطأ والصواب وأن يفهم تراث وطنه وأن يقدر مجتمعه، ويختار طريقه نحو العلم، فيرفد معرفته بقراءة الكتب، فهي رياضة العقل التي تُحافظ على صحته وقوته، كما تُحافظ الرياضة البدنية على صحة الجسم ولياقته، وتعزز الإثراء اللغوي. وهي رحلة مع العلم والمعرفة تستمر مدى الحياة لتصبح نهج حياة، وبما أن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء شخصية الطفل يقع على عاتقها غرس حب القراءة في نفوس أبنائها وتعويدهم عليها، من دون الانتظار لعمر محدد بل يجب البدء بقراءة القصص المتنوعة والهادفة للطفل وأخذهم إلى المكتبة لشراء الكتب المفيدة والنافعة وتحفيزهم على الانتقاء بأنفسهم، وإحاطة الطفل بالكتب وإلقائها في أماكن قريبة منه مرورا بتشجيعه على الاستقلالية في القراءة والتأمل بما ورد فيها واستخلاص العبر والقيم منها، ونقدها وإبداء الرأي بما ورد فيها، وتشجيعه على الكتابة والابداع وان ينتقي المناسب من الكتب وبما هو في دائرة اهتمامه، والحرص على قراءة الكتب المتنوعة والسير بين دفتي الكتاب مع رحلة كاتب يتخطى بكتاباته الحدود الزمانية والمكانية ويضع في كتبه صفوة ذهنه، وعصارة تجاربه، ونصائح استقاها من خبرته، ومسيرة علمه. لذا يجب على أولياء الأمور والمربين إيلاء أهمية كبرى للأبناء من أجل تحفيزهم على القراءة وتوجيههم نحوها في عمر صغير، وتشجيعهم على القراءة، لما لها من أهمية عُظمى في تطوير عقولهم وذكائهم ومنحهم العلم والمعرفة، وتوجيههم نحو ما فيه خيرهم وصلاحهم وما يُمكّنهم من شغل أوقات فراغهم بما هو نافع لهم. ويجب الحرص على استدامة القراءة كظاهرة مجتمعية شاملة بالتركيز على دور المدرسة من خلال تفعيل القراءة والمطالعة المستمرة والبحث والتقصي وتوجيه الطلبة لاختيار الكتب وتوفير أحدث الإصدارات العلمية والتربوية والثقافية وبمختلف اللغات وتوفير المكتبات الرقمية، ومعالجة الضعف في القراءة والكتابة بوضع الخطط العلاجية، والتكامل مع الأسرة ليتسنى معالجة ذلك الضعف، وتشكيل حلقات من النقاش والتقييم للكتب التي يتم قراءتها وتشجيع الطلبة على إعداد الابحاث العلمية والتربوية لمواكبة التطورات والمستجدات التربوية والعلمية، وتنفيذ فعاليات وأنشطة تستهدف كل فئات المجتمع وتخاطب مختلف الاهتمامات، لجذبهم، وتحفيز مشاركتهم، وتبادل الخبرات فيما بينهم، والعمل على إحداث تغيير في المنظومة التعليمية بالتركيز على التعلم الذاتي، وتطوير مناهج تعليم اللغة العربية، والافادة من نتائج التقويم للمشاريع المنفذة والهادفة إلى تفعيل القراءة مثل مشروع تحدي القراءة العربي، والقراءة الوطنية نقرأ ونتحرر. فاستئناف حضارتنا يبدأ من مدارسنا بزراعة محبة القراءة في ذهنية الطلبة منذ صغرهم وجعل شغف المعرفة جزءاً أساسياً من حياتهم اليومية ووسيلة من وسائل تعلمهم لصناعة قادة المستقبل الذين تقع على عاتقهم مسؤولية الاستمرار بمسيرة التنمية المستدامة لبلادنا ونهضتها الفكرية في ظل تعدد مصادر وأشكال الإلهاء وفي ظل الثورة التقنية. ولا بد من متابعة القراءة عند النشء لا بعدد الكتب التي يقرأها الطالب كمراكمة أرقام، وإنما مراكمة المعرفة، لتدعيم الأسس الثقافية لتنشئة جيل واعٍ، خلاق متسامح ومتفائل ومنفتح على الثقافات الأخرى، يدرك أثر المعرفة الأصيلة في الارتقاء بواقع الحياة، وبناء مستقبل الأوطان. ولا بد من تهيئة المناخ الملائم لتشكيل بيئة حاضنة وأرض خصبة لتنمية الوعي العام بأهمية القراءة وضرورة الارتقاء بها من خلال تفعيل دور الإعلام بكل أشكاله التقليدي والرقمي والاجتماعي، في المتابعة والدعم والتشجيع والتحفيز والتمكين وإيصال الرسائل الإيجابية وتسليط الضوء على الأدباء والشعراء والكتاب للنهوض بواقع مجتمعنا، وتنشيط دور النشر والتشجيع على زيادة توزيع المكتبات، واقامة معارض الكتب وتحفيز الأسر والشباب على زيارتها، لتكريس بيئة ثقافية شاملة تُعنى بها قطاعات المجتمع، للالتحاق بركب الدول المتقدمة، وتنشيط حركة التأليف والترجمة والطباعة والنشر بما يثري المكتبة العربية، وتبني المشاريع التي تحفز النشء على القراءة ودعمها وتمويلها. فالعالم العربي اليوم لا يعيش أزمة قراءة ومعرفة بقدر ما يعيش أزمة حوافز وبيئة إيجابية وعمل مشترك يتعاون فيه المسؤولون والتربويون وأولياء الأمور على تشجيع أطفالنا وطلابنا على استنهاض عزيمتهم وتوسيع مداركهم والإقبال على القراءة والمعرفة بشغف. -ولعل مشروع تحدي القراءة العربي الذي يستهدف الطلبة في الوطن العربي وأبناء الجاليات العربية ومتعلمي اللغة العربية من غير الناطقين بها، الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الامارات يعد أكبر مشروع عربي إقليمي عالمي يهدف إلى تشجيع الطلبة على القراءة وتنمية الوعي العام بواقع القراءة العربي، وضرورة الارتقاء به للوصول إلى موقع متقدم عالمياً، إلى جانب نشر قيم التسامح والاعتدال وقبول الآخر، إذ بات تظاهرة ثقافية عربية وعروبية وشكل ركيزة من ركائز التأسيس لبناء الطالب الذي نريد، قارئا ومثقفا وناقدا. وفي الختام، فإن ترسيخ ثقافة القراءة لدى الأجيال الصاعدة، وتكريس مفهوم القراءة والتعلم المستمر، وثقافة الحوار والتلاقي الفكري والتسامح تتطلب تضافر الجهود وحشد كل الموارد والامكانيات لخلق حراك معرفي تكون المؤسسات التعليمية والأكاديمية والمجتمعية جزءا منه، بحيث تتحول القراءة إلى جزء من بناء العقلية الشابة المدركة لقيمة المعرفة والتعليم النوعي، مع ضرورة توفير حاضنات ترتقي بالمواهب وتكفل لهم الرعاية وتحتفي بهم وتستثمر فيهم، ولا تغفل مشاركة ذوي الهمم معهم بتوفير مصادر تعلم وكتب تتناسب واحتياجاتهم، ولا بد من أن يعاد للكتاب قيمته وأصالته؛ لنكون أمة اقرأ أمة تجد ذاتها في طليعة الأمم. دكتوراه في القيادة والإدارة التربوية ـ جامعة القدس
مشاركة :