تواجه أوروبا هذا الصيف عدداً من التحديات البيئية والسياسية والاقتصادية التي جعلت من الصعب توقع ما إن كانت القارة عموماً ستظل محكومةً من قبل وسطيين أو ما إن كانت القوى السياسية اليمينية ستزداد قوةً ونفوذاً. موجة الحر العالمية كانت خطرةً بشكل خاص في جنوب أوروبا، حيث عانت كل من إسبانيا وإيطاليا واليونان من الحر والجفاف وحرائق الغابات. وتزامنت موجةُ الحر مع ذروة موسم العطلات، حيث يتوافد على هذه البلدان ملايين السياح من أوروبا وبقية العالَم. وكانت الحرائقُ جِدُّ خطرةً في اليونان لدرجة أن السلطات اضطرت لإجلاء آلاف السياح من جزيرة رودس التي يقبل السياح على زيارتها بكثرة. كما ارتفعت درجات الحرارة إلى مستويات مرتفعة للغاية خلال النهار، إلى درجة أن مآثر ومزارات سياحية شهيرة، مثل موقع أكروبوليس الأثري، أصبحت تضطر للإغلاق لساعات عدة كل يوم. وبالإضافة إلى الحر، شهدت إسبانيا يوم 23 يوليو انتخابات عامة دعا إليها بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء وزعيم «حزب العمال الاشتراكي الإسباني». استطلاعات الرأي التي أجريت قبل الانتخابات كانت تشير إلى أن الحزب الشعبي المحافظ سيفوز بأغلبية المقاعد في البرلمان، وسيكون مدعوماً بحزب «بوكس» اليميني المتشدد الذي تَعود جذورُه إلى الجنرال فرانكو، آخر دكتاتور إسباني. غير أن يوم 23 يوليو كان كارثة بالنسبة لـ«بوكس»، إذ أنهى أيَّ آمال له في أن يصبح جزءاً من حكومة جديدة. وقد حقق الحزب الاشتراكي وحلفاؤه نتائج جيدةً بما يكفي للتفاوض مع مزيد من الأحزاب الوسطية من أجل الاستمرار في الحكم. وخلال الساعات الأخيرة من الاقتراع توجّه الناخبون اليساريون في كتالونيا إلى مكاتب الاقتراع بأعداد أكبر مما كان متوقعاً، وذلك جزئياً لأن الكتالونيين ما زالوا يحتفظون بذكريات مرة عن نظام فرانكو. أما في بقية أوروبا، فقد حققت أحزاب اليمين المحافظ نجاحات متفاوتة. فبولندا والمجر يحكمهما زعيمان محافظان جداً، في حين صعدت في هولندا والدانمارك والسويد وفنلندا وألمانيا والنمسا أحزاب صغيرة. وحدها إيطاليا اختارت لمنصب رئاسة الوزراء جورجيا ميلوني، وهي سياسية لها ارتباط بالزعيم الإيطالي موسوليني، لكنها كانت وسطيةً في سياساتها حتى الآن وتدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا. وفي فرنسا، نجا الزعيم الوسطي الرئيس ماكرون وصمد رغم المعارضة الشديدة لجهوده الرامية إلى تمديد سن التقاعد. وفي الأثناء، تواجه بريطانيا تحدياً جديداً مفاجئاً مع توقعات كبيرة بفوز حزب العمال المعارض برئاسة كير ستارمر في الانتخابات العامة المقبلة المقرر إجراؤها في أجل أقصاه يناير 2025، لكنها قد تجرى اعتباراً من أبريل 2024. حينها سيواجه ستارمر السؤال الكبير: ما الذي ستفعله حكومتُه بخصوص العلاقات مع الاتحاد الأوروبي؟ أغلبية من مواطني المملكة المتحدة باتوا يعتقدون أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، أو ما يسمى «البريكسيت»، كان قراراً خاطئاً وأن الاقتصاد الوطني لم يشهد الطفرةَ الموعودة حينما تحرر من قيود البيروقراطيين في بروكسيل. بل على العكس من ذلك، إذ يتوقع الآن أن تسجل بريطانيا أقل معدل نمو في أوروبا هذا العام. وعلاوة على ذلك، فإنه لا شيء من الصفقات التجارية المربِحة مع بلدان غير أوروبية قد تحقق، بما في ذلك الولايات المتحدة. الحديث الرائج في بريطانيا الآن هو عن «بريغريت»، وهو عبارة عن إدغام لكلمة «بريكسيت» في «ريغريتس» (الندم)، أي «ندم بريكسيت»، وإلى أي مدى يمكن أن تكون فكرة العودة إلى الاتحاد الأوروبي ممكنةً وقابلةً للتطبيق؟ والجواب هو: «صعبة للغاية» وإن كانت علاقات أوثق وأقل رسمية مع الاتحاد يمكن أن تكون في مصلحة الطرفين. وعلى كل حال، فالأكيد هو أن الكثير سيتوقف على ما إن كان ستارمر سيفوز في الانتخابات بهامش كبير، وعلى ما إن كان عدد من المحافظين الذين كانوا يعارضون «بريكسيت» في البداية سيدعمونه في مفاوضات جديدة مع بروكسيل. لا شك في أن الفائز بالانتخابات الرئاسية الأميركية سيلعب دوراً مهماً. فجو بايدن يدعم الاتحاد الأوروبي بشدة وسيشجع بريطانيا على إعادة التفاوض معه. وبالمقابل، من المستبعد أن يقدّم دونالد ترامب، وكثير من «الجمهوريين» يدَ المساعدة، وقد يشجعوا بريطانيا على الاستمرار في سعيها وراء علاقات اقتصادية أوثق مع الولايات المتحدة وبقية العالَم.
مشاركة :