ظهرت أمريكا قوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، وبصورة دراماتيكية تربعت على عرش العالم بإنهاء الحرب بقنبلتين نوويتين. لا ريب أنه إعلان دموي عن بزوغ نجم أمريكا، وإيذان بأفول نجم الدول الاستعمارية التقليدية الأوروبية. كان لأمريكا تأثير كبير وقوة اقتصادية قبل الحرب، واغتنمت فرصة الحرب لتكون بمثابة نقطة تحول عززت مكانتها كواحدة من القوى العظمى الرائدة في العالم. استقلت أمريكا عام 1776م، وعبرت مضيق الحرب الأهلية بين عامي 1861 - 1865م لتبلغ النضج بحلول عام 1900م، ولم تعلن عن زعامتها سوى عام 1945م، طريقها للعظمة استغرق 169 عاما. إن بناء دولة عظمى هو عملية معقدة ومتعددة الأوجه تتضمن عوامل وعناصر مختلفة تعمل معًا على الرغم من عدم وجود نهج واحد مناسب الدول الخمس العظمى الحالية. يسهم في بناء دولة عظمى عناصر مهمة منها القوة الاقتصادية؛ فالاقتصاد القوي والمتنوع أمر أساس. يجب أن تمتلك الدول الطامحة تصنيعًا كبيرًا، وتقدمًا تقنيًا، وقوة عاملة ماهرة كبيرة، وقدرة على إنتاج السلع والخدمات وتداولها على نطاق عالمي. عندما ننظر بعين متجردة من الهوى نجد أن الدول الخمس العظمى الحالية لا تحقق جميعها هذا الركن الأساس في عظمة الدولة. فدولة مثل إيطاليا لا تعتبر عظمى مع أنها تتفوق في ناتجها المحلي على روسيا، لكن الأسلحة النووية الروسية وانتصارها في الحرب العالمية الثانية جعل منها دولة عظمى ومن إيطاليا بلدا صناعيا. على مستوى الدولة تلعب البنية التحتية وشبكات النقل وأنظمة الاتصالات وموارد الطاقة، دوراً حاسماً وفعالاً في النمو الاقتصادي. الدولة العظمى تمتلك جيشًا هائلاً بأسلحة فتاكة متطورة (نووية)، وقوة مدربة جيدًا ومنضبطة، وأن يكون لديها القدرة على إظهار القوة في جميع أنحاء العالم؛ لا يكفي أن تضمن القوة العسكرية الأمن القومي فحسب، بل تسمح أيضًا للدولة بالتأثير في الشؤون الدولية. ولأن التقدم التقني عامل مهم في الاقتصاد والتصنيع العسكري فإن الاستثمار في البحث والتطوير والابتكار أمر ضروري للبقاء في المقدمة في مختلف المجالات مثل العلوم، والتكنولوجيا، والرعاية الصحية، والاتصالات. يمكن أن يوفر التفوق التكنولوجي ميزة تنافسية ويؤثر على الاتجاهات العالمية. أربع دول من الدول الخمس العظمى تأتي ضمن الدول العشرين التي تتربع على هرم التقدم التكنولوجي في العالم فأمريكا تحل ثانيا في القائمة، وبريطانيا سادسا، والصين تاسعا، وروسيا في المرتبة 11، بينما تغيب فرنسا. لا الاقتصاد، ولا العسكرة، ولا التقنية قادرة أن تعمل في بيئة فوضوية غير مستقرة، فالاستقرار السياسي والحوكمة الفعالة أمران حاسمان للتنمية طويلة الأجل، ويضمنان استمرارية السياسات واتخاذ القرار. وتعتبر القوة العاملة المتعلمة والماهرة من الأصول القيمة للدولة العظمى، صناعتها تتطلب أنظمة تعليم وتدريب عالية الجودة. بالنظر إلى مراكز الدول في تقارير كفاءة التعليم لعام 2021م تتربع أمريكا على قمة الهرم، تليها بريطانيا ثانيا، ففرنسا خامسا، وعلى التوالي تحل الصين وروسيا في المركزين 22 و23. دول لا تصنف عظمى تحتل مراكز متقدمة في التعليم، لكن معيارا واحدا لا يكفي لأن تتبوأ الدولة تلك المكانة، فإلى جانب الاقتصاد والقوة العسكرية الضاربة والتكنولوجيا والتعليم والاستقرار السياسي تأتي الدبلوماسية والقوة الناعمة؛ فبناء علاقات إيجابية مع الدول الأخرى، وممارسة القوة الناعمة بالتأثير الثقافي والتعليم والمساعدات يمكن أن تعزز مكانة الأمة في المجتمع الدولي، بل وتسخير الآخرين لتنفيذ أجندتها. يمكن لثقافة الأمة ولغتها وقيمها أن تلعب دورًا في تشكيل قوتها الناعمة وجاذبيتها للدول الأخرى وسكانها. تستعمر أمريكا العالم بما في ذلك الدول العظمى بهيمنة ثقافتها وأسلوبها في الحياة الذي تغلغل بسلاسة ووجد ترحيبا شعبيا أحرج الدول التي تحاول حماية هوياتها المحلية، وأظهر عجزها في النأي بنفسها عن المد الأمريكي. الموارد الطبيعية من العوامل الأساسية التي تسهم في بلوغ الدول العظمى، ولكنه ليس حاسما، فهناك دول عظمى حققت الازدهار دون وفرة الموارد الطبيعية، وإنما اعتمدت على التكنولوجيا والتجارة والصناعات الأخرى، كالصين مقارنة بأمريكا وروسيا. وما دام أننا نعدد عوامل الوصول إلى عظمة الدول فإنه لا ينبغي إغفال الموقع الجغرافي السياسي الذي يؤثر على المكانة الجيوسياسية للدولة وأهميتها الاستراتيجية لغيرها. البلدان التي لديها إمكانية الوصول إلى طرق التجارة المهمة تكتسب مزايا تنافسية في السياسة العالمية. أن تصبح الدولة قوة عظمى ليس عملية تتحقق بين عشية وضحاها. المشهد العالمي يتطور باستمرار، لذا فإن الحفاظ على مكانة القوة العظمى يتطلب تكيفًا مستمرًا وقدرة على مواجهة التحديات الجيوسياسية. يولد تطور المشهد السياسي فرصا، وينشئ تحديات أمام الدول الطامحة والقوى العظمى.
مشاركة :