بعد أكثر من عام من الإحكام الشديد للسياسات النقدية، بدأ التضخم في الولايات المتحدة وحول العالم يتجه نحو الانخفاض أخيرا. ربما يكون من اللائق أن نحتفل بهذا بحذر، فالسياسة النقدية من الممكن أن تكون فعالة، واحتفظت البنوك المركزية بعد أن نبذت وهم التضخم "العابر"، بالقدر الكافي من المصداقية فيما يتصل بقدرتها على الاستجابة بفاعلية. خلافا لتقديرات نماذج الاقتصاد الكلي المعيارية، وعلى الرغم من رفع سعر الفائدة الرسمي في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى أعلى معدل في 22 عاما، فإن عملية خفض التضخم الجارية لم تسفر عن خسائر كبيرة في الناتج أو مستويات بطالة هائلة. باستثناء بعض أخطاء السياسات التي أفضت إلى إفلاس عدد كبير من البنوك في الولايات المتحدة، كانت عملية خفض التضخم غير مؤلمة نسبيا حتى الآن. علاوة على ذلك، حملت الأسواق الناشئة لواء القيادة في مكافحة التضخم، فبدأت إحكام السياسة النقدية قبل عام تقريبا من شروع بنك الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية الرئيسة في القيام بذلك، ونجحت في تجنب الضغوط المالية التي ابتليت بها خلال دورات إحكام السياسات السابقة من جانب "الاحتياطي الفيدرالي". لكن الاقتصاد العالمي لم يخرج من الأزمة بعد. ففي حين كانت الأرقام الأخيرة مشجعة، فإن خفض التضخم مجرد جزء واحد من عملية التعافي بعد جائحة مرض فيروس كورونا 2019 كوفيد - 19، ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الاتجاهات لتستمر. الأمر المؤكد هو أن تجاهل السياق التاريخي للتطورات الاقتصادية هو وصفة أكيدة لارتكاب أخطاء في وضع السياسات. خلافا للاعتقاد الشائع، تمتد جذور أزمة التضخم اليوم إلى أعماق أبعد من أزمة كوفيد - 19. على الرغم من عزو الارتفاع الحاد الذي طرأ على التضخم وما تلاه من زيادات أسعار الفائدة في كثير من الأحيان، إلى الطلب الزائد الناجم عن الاستجابة المالية والنقدية للجائحة، فإن هذه التدابير لم تـفـض إلا إلى تفاقم اختلالات التوازن التي أوجدتها الاستجابة السياسية للأزمة المالية العالمية خلال الفترة 2008 ـ 2010. تضاعفت ميزانيات البنوك المركزية الرئيسة إلى أكثر من ثلاثة أمثالها منذ 2008، حيث أفضى عقد من الزمن من التيسير الكمي، إلى نمو نقدي قوي وحفز موجة غير مسبوقة من شراء السندات. حتى في الأسواق الناشئة، توسعت ميزانيات البنوك المركزية بدرجة كبيرة أثناء الجائحة. في حين لعبت هذه السياسات النقدية المفرطة التوسع دون شك دورا حاسما في التخفيف من أسوأ التأثيرات التي خلفتها الأزمة المالية العالمية وجائحة كوفيد - 19، فإنها ولدت أيضا اختلالات توازن هائلة في سياسات الاقتصاد الكلي، مثل تضخم المعروض النقدي والاحتياطيات الزائدة لدى البنوك. وأدى هذا بدوره إلى إيجاد حوافز هائلة لخوض المجازفات، وتشجيع مستويات أعلى من الديون العامة والخاصة، وتضخم فقاعات أصول المضاربة، وانحراف تخصيص الموارد نحو العوائد القصيرة الأجل بعيدا عن الاستثمار الحقيقي. كما أشرنا سابقا، أفضت عمليات الإنقاذ المباشرة وغير المباشرة التي ميزت حقبة "كل ما يلزم"، إلى تراكم هائل من المخاطر الأخلاقية. علاوة على ذلك، شجعت الإصلاحات المالية بعد الأزمة المالية العالمية عن غير قصد المراجحة التنظيمية، الأمر الذي مهد الطريق أمام زيادة هائلة في حصة الأصول المالية التي تحتفظ بها المؤسسات المالية غير المصرفية الخاضعة لتنظيم خفيف، مثل صناديق التحوط وتبادلات العملات الرقمية المشفرة. تمثل هذه المؤسسات حاليا ما يقرب من نصف كل الأصول المالية، ما يؤدي بدوره إلى تفاقم المخاطر ... يتبع. خاص بـ «الاقتصادية» بروجيكت سنديكيت، 2023.
مشاركة :