في زماننا هذا، وفي كوكبنا كوكب الأرض، تنطلق مجموعات بشرية من الجنوب إلى الشمال بحثاً عن حياة كريمة، والنادر منهم ينطلق لمآرب أخرى، منهم من ترافقه زوجته، ومنهم من يأخذ زوجته وأطفاله، ويعبرون الغابات والفيافي، آحاداً وزمراً، يقتاتون مما حملوه معهم في حقائبهم، أو في أيديهم، وما يوفره لهم منسق سفرتهم، ومما لا شك فيه أن أولئك المنسقين لا يوفرون أدنى متطلبات الحياة لهم، وقد يقدم الكريم منهم أبسط أنواع الأكل الذي لا يكاد يسد رمقهم، من أرخص أنواع الطعام، وربما يقتصر على فتات من الخبز، لرحلتهم هذه إلى المجهول، دفعوا ما لديهم من مال، إن كان عندهم مال، أو قيمة أثاثهم الذي باعوه، وربما بعض أثاث ذويهم، واقترض أقاربهم لهم مالاً التغطية رحلتهم المنشودة، ولا شك أن معظم المال يذهب إلى منسق الرحلة الذي يأخذ الكثير، ويقدم القليل، ويسيرون على الأقدام مسافات غير يسيرة، يتعرضون فيها إلى صنوف التطرف البيئي من حرارة، أو برودة، أو مطر، أو غبار، أو جفاف، أو أوحال، أو غير ذلك، ويركبون حافلات قديمة يتكدسون فيها ويسيرون في طرق متعرجة لتلافي القبض عليهم، وإعادتهم أدراجهم، فيفقدون المال والرحلة مجهولة المصير، وقد يُصاب البعض منهم بالأمراض، مع نقص الغذاء والدواء، فيموت البعض، ويواصل البعض الرحلة، من السواحل يركبون البحر بمراكب متهالكة، ويحملونها أكثر من حمولتها لتنطلق بهم إلى المجهول، أملاً في الوصول إلى الشاطئ المقابل المنشود، وآخرين ينطلقون براً إلى الحدود بعد تجاوز الأنهار، والعوائق الطبيعية وغير الطبيعية، وهناك يحاول كل منهم العبور فرادى، أو جماعات، كما يحدث على الحدود الأمريكية، فإما النجاح، وإلا معاودة العبور، أو اليأس، ومن ثم العودة. من استطاع تجاوز الحدود، فسيجد أمامه من حرس الحدود من يقوده إلى أماكن إيواء، غير مناسبة، ومنهم من ينجح في التسلل عبر الغابات لعله ينجح في الوصول إلى إحدى القرى، وقد يجد من يتيح له عملاً بأبخس الأثمان، ويعيش على ذلك حتى يجعل الله له فرجاً، أما من استطاع الوصول إلى المدن فإنه يدخل بين الجموع، وتكون مهمة الحصول على عمل أيسر، ولكن بسعر أقل مما يأخذه الأجير النظامي، وقد تتلقف العصابات المحترفة ممن تجد منهم فيه المواصفات الجسدية والنفسية لقبول التعاون معها، فيتم إغراؤه فينخرط، في أسوأ الأعمال، وقد يفقد مع الزمن بعض القيم النبيلة التي كان يحملها في قلبه، فيصبح بليد الإحساس، ثم ينغمس في تلك المخازي، وقد لا يجد منها مفراً طول حياته. هناك أسباب تاريخية، وثقافية، وسياسية، وتعليمية، واقتصادية، تجعل تلك الرحلة تتجه من الجنوب إلى الشمال، فمعظم الدول في الجنوب عبر تاريخها لم تكن دولاً بالمعنى الصحيح ما عدا الشمال الإفريقي، الذي كان في تاريخه مركزاً حضارياً تسلّلت حضارته إلى الشمال، ولا يمكن أن ينسى التاريخ حضارة قرطاجة، ودولتها ذات النكهة الشرقية الفينيقية، والتي أسستها امرأة فينيقية اسمها عسيلة، والتي تم تصحيف اسمها لتكون اليسا، في قصة طويلة وطريفة، حدثت قبل الميلاد بثمانمائة عام، وأفاد منها الدول الأوربية، واسم أوروبا ذاتها جاء من اسم سيدة مشرقية تقول الحكاية اإنه تم خطفها إلى هناك. كان مجتمع إفريقيا جنوب الصحراء، يتكون من قبائل وثنية في الغالب، يكون لشيخ القبيلة النفوذ المطلق، وبعد ذلك وصلها الإسلام من الشمال واعتنقه بعض مجتمعاتها، وتكونت إمبراطوريات وحضارة ساهمت في الثقافة العالمية، وجاء الاستعمار، فصنع منها دولاً وادخل المسيحية، وسادة لغات المستعمر الفرنسية والإنجليزية، وبقيت حتى الوقت الحاضر، لكن مع كل أسف لم يدفع بتطور يذكر في المجال التعليمي والاقتصادي، وبعد أن غادر، وجدت هذه الدول المستحدثة نفسها في مأزق سياسي، واقتصادي، وتعليمي لم يسمح لها بالمشاركة الفعلية في النموذج الجديد للعالم من حيث القوة الاقتصادية والتعليمية، فظل أبناؤها يبحثون عن معيشة أفضل، فانطلق البعض منهم إلى المجهول متجهين شمالاً، بطريقة غير منظمة، وغير شرعية، وذات مخاطرة عالية، فكانت الجموع تنهال على أوربا من إفريقيا، والشرق الأوسط الذي له أسبابه المختلفة عن الدول الإفريقية في تداخلات وصراعات أيدلوجية، وسياسية، ومصالح دول كثيرة ومؤلمة، أما الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أمريكا الجنوبية فأساسها في الغالب اقتصادي بحت. والموضوع يستحق أكثر من مقال، لكن من المؤكد أن موضوع الهجرة يؤرّق كاهل الدول الأوربية، والولايات المتحدة الأمريكية، ولقد كانت وما زالت على قائمة الدعايات الانتخابية في تلك الدول، وسقطت حكومات بسببها، وعانت حكومات أخرى، وأصبح هناك مشاكل اجتماعية، وخشية من تغيرات في التركيبة السكانية والثقافية، مما قد يكون له أثر مستقبلي على تلك الدول، كما يرى بعض ساستها، أما الحلول فلا تعدو أن تكون تشدد الرقابة على المنافذ والحدود، ومحاولة التعاون مع دول العبور الأخيرة في مسار الطريق إلى المجهول.
مشاركة :