ينظر الإنسان إلى الطبيعة بمنظاره، وبما أتاح الله له فيها من تنوع، أو حتى غير تنوع، والصحراء رغم قساوتها، وشح الماء والشجر، وكثرة الحجر، وقلة المطر، إلا أن فيها من الجمال في عين من يحبها سواء كان من أبنائها أو من غيرهم، ما يسر الخاطر، ويمتع الناظر، ويبهج القلب، ويسلب اللب، فيزهو كما تزهو بجمالها. ولاشك ان الماء والخضرة، وزهور الصحراء النضرة، كالخزامى والأقحوان والنرجس، تجلو الهم، وتزيح الغم، لكن مفاتن الصحراء، لا تقف عند ذلك، فالسهول والوديان والهضاب وكثبان الرمل، فيها من جمال طبيعي دائم ما لا يصاحبه حسن مرحلي يذبل بعد حين، وكأننا ننقل تلك المقارنة التي ذكرها المتنبي في إحدى قصائده التي يفضل فيها الجمال الطبيعي الدائم للمرأة البدوية التي لم يصاحب جمالها تطرية أو تحسين يزول بمسحة منديل، أو يصنع بمشرط طبيب كما هو الحال الآن في الحضر، حيث تسود شتى أنواع المكياج والأصباغ، وحتى التجميل بصوره المختلفة من تغيير في شكل الأنف والخد والجفن والحاجب والشفة والأسنان والبطن والنهد والمؤخرة وغيرها مما لا يمكن ان يتخيله من عاش في غير عصرنا، يقول المتنبي: حُسْنُ الحِضارَةِ مَجلُوبٌ بتَطْرِيَةٍ وَفي البِداوَةِ حُسنٌ غيرُ مَجلوبِ أفدِي ظِبَاءَ فَلاةٍ مَا عَرَفْنَ بِهَا مَضْغَ الكلامِ وَلا صَبغَ الحَواجيبِ ولا برزن من الحَمّام مائلة أوراكُهنّ صقيلاتِ العراقيبِ والإنسان الذي عاش في بيئة تسودها الخضرة الدائمة، وتتعاقب عليها شتى أنواع الورود والزهور، لابد انه يجد فيها من البهجة والسرور ما يجد فيه ساكن الصحراء من جمال الرمال، وهدوء البال، يقول ابن زيدون الاندلسي، وهو يتذكر حبيبته ولادة بنت الخليفة المستكفي الأموي غير الحكيم، شعراً يذكر فيها ما في الطبيعة من حسن وبهاء: إِنّي ذَكَرتُكِ بِالزَّهْراءَ مُشتاقاً وَالأُفقُ طَلقٌ وَمَرأى الأَرضِ قَد راقا وَلِلنَسيمِ اِعتِلالٌ في أَصائِلِهِ كَأَنَّهُ رَقَّ لي فَاعتَلَّ إِشفاقا وَالرَوضُ عَن مائِهِ الفِضِيِّ مُبتَسِمٌ كَما شَقَقتَ عَنِ اللَبّاتِ أَطواقا إلى أن قال: وَردٌ تَأَلَّقَ في ضاحي مَنابِتِهِ فَازدادَ مِنهُ الضُحى في العَينِ إِشراقا سَرى يُنافِحُهُ نَيلوفَرٌ عَبِقٌ وَسنانُ نَبَّهَ مِنهُ الصُبحُ أَحداقا فهو يأنس بحبيبته في بيئته الطبيعية التي يطلق فيها النسيم نفحاته واحدة تلو الأخرى، والماء الفضي يجري وكأنّه يبتسم، ووصف الأعين بعدما لاحظت أرقه، كتلك الزهور المنتشرة في طبيعة قرطبة الخلابة، وهي تبث عبقها فتزيل أرقه وتمتع فؤاده، يقول ابن خفاجة الاندلسي: لِلَّهِ نَهرٌ سالَ في بَطحاءِ أَشهى وُروداً مِن لِمى الحَسناءِ مُتَعَطِّفٌ مِثلَ السِوارِ كَأَنَّهُ وَالزَهرُ يَكنُفُهُ مَجَرُّ سَماءِ هكذا الطبيعة وجمالها في الصحراء وفي بلاد الخضرة لا فرق في ذلك، فالإنسان ابن بيئته.
مشاركة :