لا تزال تونس، مهد أحداث الربيع العربي، أكثر الأنظمة الديمقراطية العربية تحرراً، وواحدةً من بلدان المنطقة الأكثر نمواً على الصعيد الاقتصادي، والأعلى في معدلات نسبة المتعلمين. وهي تشكل مع ذلك المصدر الأوفر، بدون منازع، بالمقاتلين الأجانب المنخرطين في تنظيم داعش في كل من سوريا والعراق. وقد غادر ما يتراوح بين 6000 و7000 تونسي البلد الصغير الواقع في شمال أفريقيا للقتال في صفوف التنظيم، الذي يدعي قيام دولته المزعومة، وذلك على نحو مضاعف مقارنةً بالجزائر ومصر الأكثر اكتظاظاً بعدد السكان. وقد حظر السفر على ما يزيد على 15 ألف تونسي، لاشتباه الحكومة باحتمال التحاقهم بالتنظيم. ويعتبر التوجه التونسي نحو داعش ملفتاً للنظر، لأنه مناف للمنطق المعتمد لتفسير المسببات الأساسية وتلخيصها بالقمع السياسي للأنظمة الدكتاتورية، أو بالإحباط الناجم عن الفقر. ويشكل حي التضامن الذي يضم الطبقة العاملة، إحدى ضواحي تونس الشبيهة بإسبانيا أو أوروبا، واحداً من المناطق الساخنة التي ينطلق منها المقاتلون إلى سوريا والعراق. ويشكل التونسيون على نحو متزايد عماد التنظيم المتنامي في ليبيا المجاورة، وقد قتل ما يقارب 50 منهم في الغارة الجوية الأخيرة التي نفذتها القوات الأميركية على مخيم للتدريب غربي العاصمة الليبية، طرابلس. لكن ما السبب الذي يفسر هذا التناقض؟ ترتكز الإجابة، في بلد مشوب بالانقسامات العميقة، على الجهة التي تسأل. لا تزال ديمقراطية تونس الناجحة استثناءً للقاعدة، حيث تحولت أحداث الربيع العربي في كل من سوريا وليبيا واليمن، على سبيل المثال، إلى حروب أهلية، أو سحقت بإعادة ظهور ديكتاتوريات من نوع آخر. وتساءل الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، قائلاً: لماذا لدينا أشخاص متعلمون، يشغلون وظائف، ينضمون إلى داعش؟ لا تتعلق المسألة بمعالجة الجذور الاجتماعية الاقتصادية، بل بالذهاب إلى أبعد من ذلك لفهم أننا ليس لدينا حلم.. وبالنسبة للتونسيين الأكثر ميلاً للعلمانية، تغفل العديد من تفسيرات الواقع ما يعتبرونه الموقف المبهم لحكومات ما بعد الربيع العربي حيال المتشددين. وقد حاولت الحكومة التونسية بدايةً حض بعض المجموعات المتطرفة للمشاركة في الحياة السياسية. إلا أنها بدأت مسيرة التصدي لهم عقب محاولة تفجير مجمع السفارة الأميركية عام 2012. ولا تزال الحكومة بنظر بعض المنتقدين، بمن فيهم أقارب للمتشددين، تتساهل في تعاملها مع المحرضين على التشدد. وقال في هذا الصدد محمد إقبال بن رجب، رئيس جمعية التونسيين العالقين في الخارج، وهي مجموعة تعمل على لم شمل حوالي 250 عائلة من التونسيين الذين انضموا إلى مجموعات متشددة في كل من سوريا والعراق:يحظى هؤلاء بتغطية سياسية ولا يمكن لأحد التدخل بشؤونهم. وأضاف: حين يكون المرء منوماً مغناطيسياً، فإنه لا يعلم سبب ذهابه إلى هناك. الأمر أشبه بفيروس. إخفاق تخيم أجواء الخيبة العامة على أنحاء تونس، وفق تصريح للمنصف المرزوقي، الناشط الآن في مجال حقوق الإنسان، الذي كان أول رئيس لتونس ما بعد الربيع العربي بين الأعوام 2011 و2014. وأشار إلى أن ثورة الياسمين العابقة بالديمقراطية، قد أخفقت في تحريك عجلة النمو الاقتصادي، أو القضاء على الفساد المستشري.
مشاركة :