البنية الإيقاعية في مِيميّة الحنين إلى مسقط للقاضي عيسى الطائي

  • 8/23/2023
  • 17:55
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

  ناصر أبوعون حتى إذا ما قاربت شمس "الإمامة" على الأفول بعد سبع سنين عجاف قضاها الإمام العلامة سالم الخروصيّ ما بين (1913- 1920)، يسعى حثيثًا إلى بعثها من أجداثها، وينفخ فيها روح الماضي التليد الذي ولّى، وفي الآن نفسه يُحاول استنهاض شمس الخلافة الإسلامية قُبيل سقوط ذكراها وراء المغيب، آملًا في ترسيخ أركان دولته في الداخل العمانيّ، غير أنَّ العصر قد تجاوزها وباءت كل المحاولات بالفشل، برفض أتباعه- الاقتراح البريطاني- القبول بـ"سلطة دينية للإمام" مقابل "سلطة دنيوية للسلطان" على كامل التراب العُمانيّ، وأعرضوا عن اليد الممدودة بالمصالحة مع السلطان تيمور بن فيصل. فلمّا انهزم جيش الإمام وقضى نحبه شهيدًا، طالت يدُ الاعتقال الكثير من رجاله ومنهم أفراد من عائلة الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائيّ- خاصةً أولئك الذين جاهروا بتأييدهم للإمام الخروصيّ- وكان منهم شقيقُه محمد بن صالح، وابنُ عمه علي بن ناصر، وعمُه سليمان بن عامر (الطائيين)، مُضافًا إليهم ابنُ خاله الشاعر أبي سلام سليمان بن سعيد الكندي، وإرسالهم في منفى جماعيّ إلى جزيرة (سمربور) الهندية.   وعلى إثر هذه المصيبة، ارتضى شاعرنا لنفسه عُزلة ومنفى اختياريًا فخرج من "مسقط العامرة" تحت سمع وبصر السلطان تيمور بن فيصل وفارق عشيرته، وما أصعب الخروج من الديار، فهو ومفارقة الروح للجسد سواء؛ وفي ذلك يقول الذي جلّ في علاه: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا" [النساء: 66]. وتأويل هذه الآية أنه إذا ما خُيِّرَ جماعةُ المؤمنين ما بين (مفارقة ديار أقوامهم وأهليهم)، و(قتل أنفسهم) لاختاروا قتل أنفسهم بديلًا عن الخروج من أوطانهم، وما فعله إلّا "رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا" (الأحزاب: 23).   لقد كانت مفارقة الشيخ عيسى بن صالح الطائي لمسقط ابتلاءً ومصيبة أخرى؛ فقد برّحته نار الشوق والجوى سبع سنين عجاف خاوية الوفاض من الألفة والمؤانسة؛ وإنْ كانت (سمائل/ منفاه)؛ هي موطن أجداده وموئل شيوخه وآلهِ، وجنّة الدنيا، إلّا أنه لم يقبل بها بديلًا لمسقط. فلّما تمّ توقيع الإمام الخليلي على "معاهدة السيب" السلام، فاضت جوانح شاعرنا القاضي فكتب قصيدته في "الحنين إلى الوطن"، وأرسلها إلى بريد السلطان تيمور بن فيصل، فأثارت شجونه، وهيّجت مواجده، ومسّت شغاف قلبه، فاستدعاه وبسط له يده، واتخذه مستشارا، وعَهِدَ إليه وقلّده وظيفة القضاء وجعله موضع ثقته. ويُبقي الشاعر على ولائه فيتقلد منصب "قاضي قضاة مسقط" في عهد ابنه السلطان سعيد بن تيمور إلى أن وافته المنيّة. لا غربة ولا اغتراب إنَّ المُطالِع للأدب العربيّ منذ انبلاج فجره الأول في العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا لن يعثر على غرض "الحنين" إلّا مقرونًا بـ"الغربة والاغتراب" في جُل قصائده، غير أنّ الشيخ القاضي عيسى الطائي كان الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة العامة؛ فقصيدته حنين جارف لمسقط لا يفارق طيفها أفق خياله، وسمائل منفاه الاختياريّ جنة وارفة الظلال، ونجد مساواة لا نظير لها بين المحلين في المحبة وسحر الطبيعة، والعشق الجارف لأهله هنا وهناك، وتتدفق مشاعره أفلاجًا من حنين ممزوج بالرضا، ويكاد القاريء أن يقع في حبائل المشابهة بين مسقط وسمائل لولا إثبات شاعرنا للمعالم جغرافية ومسميات الأماكن وما فيها من أعلام، ومفردات الطبيعة في محيطهما. ومَرَدُّ عدم اقتران الحنين بالغربة والاغتراب في قصيدة الشيخ عيسى الطائي؛ ربّما يكون مرجعه أنّ ولاية (سمائل) كانت مهبط الهجرة الثالثة لأجداده الأوائل من (طيّ) الذين نزحوا من اليمن بعد انهيار سد مأرب ودخلوا عُمان، واتخذوا من أحد السهول المنبسطة بمحافظة الشرقية موطنا لهم وتسمّى باسمهم والمعروف الآن بـ(وادي طِيويّ)، ثم هاجر جدهم الأكبر إلى (نزوى) وأخذ علوم الدين والعربية والطبابة هو وذريته من بعده عن علمائها، وبرعوا في أصول الفقه والقضاء الشرعيّ، ثم في موجة ثالثة من موجات الهجرة التي عاشها الطائيون في عُمان انتقل قسمٌ كبيرٌ منهم إلى (ولاية سمائل) وعاش فيها نسلهم حتى اليوم، وكانت مهادا للشيخ عيسى، ومراتع صباه، وشبّ فيها عن الطوق، وجلس إلى علمائها وقرأ عليهم الأصول والمتون. وقد انتفت مفردات الغربة والاغتراب، وما يتولّد عنهما من حنق وقلق وحسرة في قصيدته لما لاقاه من حفاوة أهل (سمائل) وإكرامهم، وبسطهم لهم يد الرضا. وفي ذلك أنشد قائلا [(فألقيتُ رَحلي في بِلادٍ عزيزةٍ // وخيرُ بِلادٍ حولَها المَجدُّ خَيَّمَا)،(وأصبحتُ عن "وادي الصغيرِ"وشِعْبِهِ // بِشِعْبِ "ابنِ إبراهيمَ" ضَيْفًا مُكَرَّمَا)]. وجوه الحنين في القصيدة وطوال الرحلة ما بين مراتع مسقط وأفيائها، وسوح سمائل وظلالها، ومن مطلع القصيدة حتى منتهى أبياتها تتبدّى (ذاكرة الحنين) وتتوزّع لدى شاعرنا عيسى بن صالح الطائي على وجهين أو ضربين اثنين: أمّا النوع الأول من الحنين؛ ونسميه (ذاكرة المكان): وفيه نعثر على صور شعرية ثرّة، ومحاورات بين ذات الشاعر ومراتع الصبا والشباب، حيث تبدو المعالم الجغرافية كصفحات الحياة، وفصول من كتاب الأيام التي رسمتها خطاه، ومواضع الآثار التي لامستها يداه، يستنطق الجمادات ويبث فيها روح الحياة، ويناجي الذكريات ويقف على الأماكن في محافظة (مسقط) وقوف الشعراء القدامى على الطلل وحاول أنسنتها ومناجاتها فيتذكر: [(وادي الصغير/ حبّاسة الماء/ مسجد الوادي/ الباب النضير/ الخرس النمير/ كهفا)]، وفي الصورة المقابلة يحتفي بالأمكنة في ولاية (سمائل) ويناجي معالمها، ومواضع اليُمن والنُّعمى [(سل ديرة الدرناز/ وسفح الحديد/ وبئر هديف/، والملتقى/، وبئر رمضان)]، ويرسم لنا لوحات طبيعية تنطبع في ذاكرة القراء كصورة ذهنية حاضرة أو مسبقة لها وإن كانت متخيلة إلى أنها ستناظر الواقع وتتفوق عليه جماليا. وأمّا النوع الثاني، فيتمثل في ذاكرة الحنين الإنسانية، فيستدعي الشخوص، والأهل والأحبة في رؤية درامية تعتمد على الموازنة بين الأمكنة لا المفاضلة فكل الأماكن سواء في عُمان [(وأصبحتُ في وادي الصغير وشِعْبِه // بِشِعْبِ (ابنِ إبراهيمَ) ضَيفًا مُكرّما)]. الدافعية إلى الحنين في هذه القصيدة نقف على أربعة دوافع استثارت عاطفة (الحنين)، واستنهضت الذكريات من مكامنها، وطافت بلبّ الشاعر في أرجاء مسقط العامرة، واستنبتت نداءتها في مناقير الطير، ونثرتها على ذرا الجبال، وفرشت أبسُطها في السهول والأودية، ونشرتها كرسائل على عيون الأشهاد، وطيّرها الشاعر كبريد شوق إلى (السلطان فيصل) ليعجّل بقدومه عليه. أمّا الدافع الأول فكان (دِينيًا محضًا) وقد نما هذا الدافع في مرابض بيئة الشاعر الإسلامية وملأ عليه كيانه، منذ نعومة أظفاره، فآمن أن حب الأوطان أصل من أصول العقيدة التي تربّى عليها وآمن بوطن عمان (وطنًا ومذهبًا) [(نعمْ؛ شرفُ الأوطانِ عندي مُقدَّمٌ // ولو جرّعتني الضَّيمُ صَابًا وعَلْقما) (وقومي وإنْ صَدّوا بإغراءِ حاسِدٍ // أرى صَدَّهم عنِّي من البينِ أعظَمَا)]. وأمّا الدافع الثاني للحنين إلى مسقط فكان (نفسيًّا سِمتًا) وَلَّدَته مفارقة المقربين من قلبه، وأوقدت نيرانه هِجرته من مراتع الصبا، وتباعده عن عشيرته؛ ولأن الإنسان يحيا بأهله واجتماعيٌ بطبعه، فهو يخاصم العزلة، ويأنف من التفرّد والوحدة، وإن كان في (سمائل) يأنس بصحبه وخلانه إلا أن نيران الشوق لأهله يشبّ أوارها بين جوانحه ويقضّ مضجعه لوعة لا تهدأ [(إذا لاحَ برقٌ أو هديلٌ ترنَّما // تساقطَ منِّي الدمعُ فردًا وتَوأمَا)، (فأصبُوا اشتياقًا للنسيمِ إذا سَرَى // يعانقُ أفنانَ الرياضِ مُهينما)]. وثالث الدوافع إلى الحنين فكان (عقليًا خالصًا) اقتضته ضرورة المراجعة الفكرية، وإعادة التموضع بما تقتضيه المصلحة العامة، وما تمليه مصلحة البلاد والعباد؛ فقد أيقن الشيخ القاضي عيسى بن صالح الطائي أن انهزام كتائب الإمام العلامة سالم الخروصي إيذانٌ بزوال دولة الإمامة، ولا سبيل للنجاة لهذه الأمة إلا بالتوحّد خلف سلاطينها ونبذ التشرذم، والذَّود عن وحدة أراضيها، وإعادة اللحمة الوطنية بين أفخاذها وبطونها، فأنشد يقول: [(معاهدُ قضَّيتُ الشبابَ بِسُوحِها // بعهدِ مليكٍ لا يُضامُ له حِمَى) (هو الملكُ السُّلطانُ (فيصلٌ) الذي // بِسُؤدّده فوقَ السِّماكينِ قَدْ سَمَا)]. أما الدافع الرابع والأخير للحنين فقد كان (اجتماعيًّا مُؤنسًا) حرضته عليه الرغبة العارمة بعد ستٍّ عِجاف قضاهن في سمائل بعيدًا عن حمى عرينهم، والتطلع إلى الاستقرار بين أهله وذويه، والنظر في مواضع رعايتهم، والاستئناس بصحبتهم، وملازمة وليّ الأمر في معيتهم[(وصحبةِ إخوانٍ إذا ما ذكرتُهم // تسيلُ دموعُ العينِ منِّي عَنْدَمَا)]. البنية الإيقاعية والصورة الشعرية (أ) البحر الشعري عبر مساحة هذه القصيدة الهادرة مثل موج البحر الذي تتابع أمواجه ويسابق بعضها بعض نحو الشاطيء ومن ثَمَّ تعاود الرجوع المرة بعد المرة للدخول في سباق لا ينتهي من أول الشوط إلى بداية الشط، في حركة مكوكية لا تهدأ ولا تستكين؛ لأن البحر هنا حياة أبدية، بينما الوصول إلى الشاطيء والبقاء هناك سكون استاتيكي فيه نبض خافت مثل حالة الاحتضار، ولكن إيذان بتوقف عجلة الحياة والخول في حالة اللاحراك بما يعني الموت.. هنا يتدفق إلى المخيلة سؤال ملحاح: لماذا تخيّر الشاعر القاضي عيسى الطائي تفاعيل البحر الطويل ليعزف عليها حنينه إلى (مسقط)؟ لماذا أجرى لحنه على (مفاعيلن/ فعولن/ مفاعيلن)، وحذف ياء (مفاعيلن) ونون (فعولن) لتتحول التفعيلة إلى (فعول)؟ لقد كان البحر الشعريّ مدوزنا ويتأبط عاطفة الحنين الفياضة، ويرتكز على نَفَس شعري طويل يتوافق مع تفعيلاته التامة، ويعطي رحابة بلاحدود، ويوسّع مساحة الحماسة الممزوجة بالحنين، ويرتفع بالإيقاع إلى أعلى درجاته والدخول في خطابية تقتضيها الحالة الشعورية، ومن ثَمَّ أتى التصريع في مطلع القصيدة مساويا بين (الضرب والعروض).[(إذا لاح برقٌ أو هديلٌ ترنّما // تساقط مني الدمع فردًا وتوأما)]. (ب) القافية والرَّوِّي تأتي قافية هذه القصيدة لتتوائم مع البحر الشعري، وتدور في فلك عاطفة الحنين، وتنساب مع الدفقات الشعوريّة المتوالية التي ينفثها الشاعر من صدر رحب لا يضيق بمنفاه الاختياريّ في (سمائل - ملاعب الصِّبا)؛ لأنها منزل أجداده، ولكّنه يتشبّبُ بنيران الشوق إلى (مسقط- مراتع الشباب). يوظِّف الشاعر القاضي عيسى الطائي (القافية المطلقة) التي تسهم في إثراء النغم الموسيقي على طول شاطيء القصيدة، فيعلو صوته بالحنين [(خيّما/ مُكرّما/ مُنعّما/ أعظما)]، ويعبّر ما يختلج في نفسه من مشاعر متصارعة ما بين الحنين إلى (مسقط) العامرة، ومفارقته لـ(سمائل) المضيافة. وعلى مدار آخر تُسمى هذه القافية بـ(الذلل)؛ حيث تحرّك حرف الرَّوي بالفتح(مَا) فأوقع في نفس السامع ترنّمًا وإثراءً لموسيقى الشعر، ثم نجح (الإرْدَاف)، وهو أحد وظائف القافية في إحداث نوع من (الترّنم) بمد الصوت بحرف اللين (الألف) مما أمكن الشاعر من إخراج الكبت الشعوري والتعبير عن تجربة الحنين. (ج) المحسنات البديعية في جلسات القراءة لقصيدة الشاعر العُماني القاضي عيسى بن صالح الطائي وقُبيل عملية الكتابة كان يتردد في أذني صدى صوت ذي الرمة:[(وشعرٌ قد أرقت له طريف// أجنبه المساند والمحالا)]، فمع كل كلمة، وفاصلة، وانتقالة كانت صورة شاعرنا تتجسد، وهو يقلب الألفاظ، وينتقي من ساحتها ما يوائم الصور الشعرية وينتخب في محرابها المحسنات البديعية التي تحمل المعاني، مما يؤكد على أنه شاعر مطبوع غير متكلف يعاني من حالة مخاض دائم. فمدار الشاعرية عندنا مرهون بإعمال الشاعر للحواس الخمس في اللغة؛ ففي مواضع من القصيدة كان شاعرنا يشتم روائح الكلمات، ومواضع أخرى يمرر المفردات على لسانه، وفي أحيانا كثيرة يتحسس نبض الكلمات، ويسترق السمع لأنينها وشجوها،  يقول الدكتور محمد النويهي (الإنسجام بين جانبي الإيقاع والجرس هو الذي يُصدر ما نسميه بالنغم الشعري وهو اجتماع الأصوات اللغوية تحت تنظيم الإيقاع في تموج يعلو ويهبط ويلين ويشتد متلائما مع تموج الفكرة والانفعال). ومن بديع محسناته كان (الطباق) الذي شكّل نغما موسيقيا خفيا، وكشف عما يعتمل في نفس الشاعر من صراع نفسي وفكري [(وكان بقرب (الملتقى) خير ملتقى // بطلعة أقمار إذا الليل أظلما)]. (د) الصورة الشعرية في هذه القصيدة انتقل بنا الشاعر القاضي عيسى الطائي من بدائية الصورة التقليدية التي تنبني على استنساخ الواقع وجلبه داخل حرم القصيدة إلى رؤية متقدمة تعتمد على بناء علاقات بين المفردات الحاملة للمعاني تحت موقد الحالة الشعورية والعاطفة الجياشة فنجح في نقل تجربة الحنين إلى (مسقط) عبر صورة مغصنة بديعة، كشف من خلالها عن رؤاه الجوهرية فبدت القصيدة مسرحًا يعج بالشخوص والأمكنة التي تتحرك وتتحاور في فضاء النص، وخرج بها من عالم التجريد إلى الواقع المجسد، فتبرعمت وتفرعت ومدّت جذورها داخل التجربة الشعرية، وتعاونت الاستعارة المكنية مع التشبيه والكناية في بناء صورة من سفيسفاء المعاني. ومن بديع صوره قوله: [(وسَلْ دِيرةَ "الدرناز" تخبرك)، (النسيم إذا سرى يعانق أفنان الرياض)، (كسته يد الوسمى بُردًا منمنما)، (ماؤها يسيل معينا كالمجرة في السما)/(المُزن جادته ندىً فتهدَّما)، وغيرها الكثير من الصور الطريفة التي يزخر بها النص. مستحثات الحنين تهيج الذكريات، وتشبّ نيران الشوق، وتُستثار العواطف، وتتدفق الرؤى في عقل شاعر القاضي عيسى بن صالح الطائي، فيخاصم النوم أجنابه، ويهجر النعاس أجفانه، ويرقد الحنين في فراشه، فتقوم الذكريات من مراقدها تحت أجنابها أشواك تضج مضاجعها، وتستحثُّ الحنين في صدر الشاعر ومخيلته مثيراتٌ عديدة؛ تصاحبه في صحوه ونومه إن لم تكن تبيت بين اللحم والعظم، ويطفو منها على سطح وجدانه، ثلاثة وجوه؛ أولها: (الأطياف) التي تهبّ نسائمها فتهيّج أشواقه، وثانيها (الأمكنة) كعلامات مضيئة في مقطع مستعرض من سيرته الشخصية فينشّط ذاكرة التاريخ، ويتشبث بالذكريات، وآخرها: (آثار الطبيعة) وذاكرة الحجر وأحاديث الطلل. (1) المستحثات المعنوية (الأطياف) في هذه القصيدة وثّق الشاعر القاضي عيسى الطائي ظاهرة (الطيف)، وهي تراث يتناقله الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي في القصيدة العربية، فقد أثبته بعضهم في نسيج المقدمة الغزلية، وبعضهم يحلو له أن يستذكره في مواضع شتى من القصيدة، وبعضهم أوقف قصائد كاملة للطيف؛ فالكل يحتفي برمزية الطيف، وإن كان شاعرنا يأتي الطيف عفو الخاطر لا تكلفًا، ولم يقض مضجعه في مناماته، ولا شطحات خيال عاطفيّ، وإنما هو ابن العقل، وأخ الفكرة، ومولده في اليقظة، وأثبته الشاعر في مقدمة القصيدة حيث كان موضوعها ومدارها الفكريّ؛ فطيف (مسقط) يزوره [ّ(إذا لاح برقٌ أو هديلٌ ترنّما)]، ويُشعل به نار الصبابة [(للنسيم إذا سرى يعانق أفنان الرياض)]، ويستحضر رفاق الصبا[(خليليّ هلْ وادي الصغير كعهدنا)،(وهل ماؤه الجاري به غير آسنٍ؟)،(وهل مسجد الوادي على العهد ثابت؟)]. (2) المستحثات المادية (الأمكنة) ومن تساؤلات الشاعر مع طيف (الرفاق/خليليه) يستدعي عاطفة (الحنين) ويُضرم نيران الشوق في حطب الذكريات، ويستدعي (الأمكنة)؛ بل يسافر على بساط الطيف إليها حيث تكون، ويعود إلى العهود الأولى، وهي تقنية تشبه (الفلاش باك) في صناعة السينما فيستذكر ملاعبه عن (الباب النضير)، وخلوته التعبدية في (كهف وادي الصغير)، ويستنطق التاريخ في مراعي (الخرس النمير)، ويجري حوارًا داخليًا (منولوج) بين ذاته المأزومة التواقة إلى مسقط وهاتيك الأماكن التي صار جزءًا من تاريخها وجغرافيتها. (3) المستحثات الطبيعية (الآثار) وينجح الشاعر في بث عاطفة الحنين في جوانح الطبيعة العمانية الخلابة رغم ما يحيط بها من جبال صماء راسيات، ويستحث اللهفة والاشتياق في (أطياف الطبيعة المسقطية)، ويشعل حطب اللهفة والاشتياق، تحت قدور الحنين ويتخذ من الصورة الشعرية حاملا لهذه العاطفة الفوّارة، فتتجلى الصورة وتفرض وجودها على مشاهد كاملة من القصيدة وتتسع مساحتها وتؤكد سطوتها، وتلعب دور المعادل الموضوعي للطبيعة الواقعية [(من وابل المُزن مفعما)، (سقى المزن مغناها من الوُرْق مُرزما)، (بطلعة أقمار إذا الليل أظلما)].

مشاركة :