اهتمت قصيدة التفعيلة اهتماماً كبيراً بالشكل الذي توضع فيه الكلمات على الورق، ولعلاقة هذه الكلمات ببعضها ضمن هذا الإطار، وهو ما يعرف بتقنية التشكيل البصري أو الانزياح الكتابي، وهو محاولة من القصيدة الحديثة بأن تستعيض من خلال التعبير بالصورة البصرية عن مبدأ التعبير بالصورة اللفظية، لذا لم يعد المعروض نصاً، بل هو إلى جانب ذلك فضاء صوري شكلي، لا يخلو من دلالة تحكمها مقصدية منتج الخطاب. وبالتالي فإن فهم النص، واقتناص مدلولاته، واستكناه إيحاءاته، لا يقع على العقل وحده، بل لا بد من تعاضد العقل والسمع والبصر. ولعل اعتناء النص الحداثي بالتشكيل البصري قد تسرب إليه من تأثيرات الدادائية والسريالية، وغيرها من التيارات الشعرية والفنون التشكيلية التي وجدت طريقاً إلى الشعر العربي الحديث؛ التمرد على المألوف والرتيب. ولا ضير على الشعراء في ذلك، فهي محاولة لاستثمار كل الأدوات الفنية المتاحة أمامهم، من أجل تقريب النص الشعري من المتلقي، وكسر المألوف والمعتاد عليه. وقد تجلت مظاهر الانزياح الكتابي في القصيدة الحديثة بأشكال مختلفة ومنها: تمزيق أوصال الكلمة الواحدة من خلال فك ارتباطها الطباعي. أو تفتيت الكلمة من خلال بعثرة حروفها على الصفحة كما في قول سعدي يوسف: «كانت أجساد السمك البالغ ناعمة فوق حراشيفها/ ك. و. س .ج / ك . و . س. ج/ كوسج /كوسج، وكان الكوسج مندفعاً نحو الماء الأبيض». وربما يكون بناء المعنى في القصيدة يرتكز على البعد البصري المستند على الانتقال من النص إلى الشكل مما يقوي -بالتالي– الطاقة الدلالية، وهذا ما جعل الشعر الحداثي في شكله الجديد خرقاً للألفة الخطية التي ترسخت في خيال المتلقي في نمطية ثابتة. وقد عني كثير من الشعراء بطريقة الشكل الهندسي للقصيدة منهم: علي أحمد سعيد (أدونيس)، وسعدي يوسف، ومحمود درويش، وكمال أبوديب وغيرهم الكثير، فحولوا قصائدهم من قصائد تقرأ إلى قصائد يمكن إدراكها أيضاً بالعين، مما أفضى إلى مضاعفة وسائل التلقي، والكشف عن بعض خفايا النص، وما كمن من مدلولاتها فالرسم الهندسي للألفاظ، والرسومات والألوان المصاحبة يوسع من دائرة الحوار بين المبدع والمتلقي، وربما أعاد المتلقي صياغة العلاقة التي أنشأها المبدع في نصه، ليحاول اكتشاف الأواصر المفقودة. ويبقى التشكيل البصري إضافة جمالية للنص الشعري، علاوة على ما يحققه من شعرية عالية، بفضل التشكيل البصري أو الانزياح الكتابي. تتعدد مظاهر الحداثة في الشعر العربي الحديث بداية من توظيف الأقنعة التراثية في بناء الصورة وتجاوز البنى الوزنية الكمية نحو بنى إيقاعية ثرة مخصبة لدلالة القصيدة. ويعد التشكيل البصري أو بالأحرى لعبة السواد والبياض واحداً من مظاهر الحداثة الشعرية. وإذا كان هذا المظهر الفني وثيق الصلة بالتحول في وسائط النقل والإبلاغ ونشأة المطبعة فإنها تعد تأليفاً خلاقاً داخل النص الشعري بين ممارستين دلاليتين: الصورة التي تنتسب إلى المجال المرئي والقول الذي ينتمي إلى المجال اللساني. وهو ما من شأنه أن يجعل المعاني غزيرة فينفتح باب التأويل والتدلال (مصطلح التدلال، مصطلح نقدي راج عند هنري ميشونيك وجوليا كريستيفا ومداره على تعدد المعاني في النصوص المكتوبة والمرئية والمسموعة. فالنص «امبراطورية من الأدلة») ولعله من المفيد أن نشير أيضاً إلى أن الممارسة الدالة مصطلح صاغته جوليا كريستيفا، وتعني به كل نص يتحقق بالعلامات اللغوية في مقام الكتابة وبالرسوم في السياق المرئي والموسيقى أي الأداء الصوتي في الشعر في مقامي المشافهة والإلقاء والإنشاد.. (هناك قصائد تحولت إلى أغانٍ: قصائد أبي القاسم الشابي ونزار قباني ومحمود درويش..). ويمكن أن نتمثل أيضاً بجبران خليل جبران فهو أحد رواد الحداثة الرومنطيقية، وهو بالقدر نفسه مؤسس من مؤسسي الرابطة القلمية بالمهجر. كتب باللسانين العربي والإنجليزي وجمع بين الكتابة والموسيقى والرسم والنحت. فقد جاء إلى العالم ليقول الكلمة ثم أحس «أنه لم يقلها كاملة» فكانت حاجته إلى العلامات السماعية والبصرية بها يسد النقص ويتممه. خلاصة القول: إن قصيدة الحداثة تقرأ قراءة قوامها التنضيد أو بالأحرى قراءة القفز من العلامة اللغوية إلى العلامة البصرية.
مشاركة :