الدعوة إلى مراجعة سياسة أوروبا الأفريقية، تبدو مخففة جدا ولا تعبر عن عمق الصدمة التي تهز دوائر صنع القرار والرأي في أوروبا على وقع موجة الانقلابات العسكرية. فما أبعاد المراجعات أو التغييرات المتوقعة في السياسة الأوروبية؟ الجنرال عبد الرحمن تياني، الرجل القوي الجديد في النيجر، يلقي خطابا بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد بازوم. منذ عقدين فقط توصل الاتحاد الأوروبي إلى بلورة سياسة موحدة إزاء القارة الأفريقية، عندما أقر البرلمان الأوروبي في نهاية سنة 2005 وثيقة "استراتيجية الاتحاد الأوروبي الأفريقية" التي عرضتها المفوضية الأوروبية. وجاء الاهتمام الأوروبي من منظور استراتيجي شامل متأخرا، سواء قياسا لدول حليفة أوروبية لها نفوذ تاريخي وجيوسياسي في القارة السمراء في مقدمتها فرنسا وبريطانيا وإيطاليا. هو متأخر أيضا للدور الأمريكي التاريخي أو استراتيجية "بناء شراكات القرن الحادي والعشرين بين الولايات المتحدة وأفريقيا" التي أقرها مجلس الأمن القومي الأمريكي في بداية الألفية، أو مقارنة مع قوى عالمية وإقليمية منافسة خصوصا اليابان السباقة في هذا المجال والصين التي دشنت استراتيجيتها الأفريقية مع بداية الألفية، أو روسيا التي أعادت القارة الأفريقية إلى صلب أولويات استراتيجيتها بعد عقدين من الغياب إثر تفكك الإتحاد السوفيتي. الدور الأوروبي المتأخر أصلا قياسا لأدوار الحلفاء والمنافسين ، يتعرض منذ سنتين على الأقل لزلزال كبير في القارة السمراء. وقد تبدو العبارات التي استخدمها جوزيب بوريل المنسق الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية، عبر دعوته خلال اجتماع وزراء الخارجية والدفاع الذي التأم الأسبوع الماضي في توليدو (طليطلة) بإسبانيا، إلى مراجعة سياسة أوروبا الأفريقية، مخففة جدا ولا تعبر عن عمق الصدمة التي تهز دوائر صنع القرار والرأي في التكتل الأوروبي، وذلك على وقع سلسلة الانقلابات العسكرية والتغييرات الدراماتية التي شملت شريط دول الساحل والصحراء وشكلت بمثابة حزام يشطر القارة الأفريقية من أقصى غربها (الغابون) حتى جناحها الشرقي (السودان). فما هي الأبعاد التي يمكن أن تستهدفها المراجعات المنتظرة في السياسة الأفريقية للاتحاد الأوروبي، وهل تكتسي طابعا سطحيا أم تطال أبعادا جوهرية وعميقة في الاستراتيجية الأوروبية؟ الدور الأوروبي بأفريقيا.. نزيف فرنسي تتفق معظم التحليلات على أن مقاومة النفوذ الفرنسي تشكل بعدا محوريا في التطورات المستجدة على الساحة الأفريقية، وبأن تداعياتها لا تتوقف عند المستوى الفرنسي بل تطال الوجود الأوروبي من ورائه. لكن يمكن طرح سؤال حول مدى قدرة أوروبا على الحد من خسائرها الاستراتجية في الدول الأفريقية وعما إذا كان يتعين أن يتم ذلك عبر وضع حدود للتشققات العميقة التي أحدثها زلزال الانقلابات في الدول الواقعة تاريخيا تحت النفوذ الفرنسي. متظاهرون في نيامي عاصمة النيجر يطالبون برحيل فرنسا من الوهلة الأولى تبدو أي محاولة لفصل النزيف الفرنسي عن السياق الأوروبي، مهمة شبه مستحيلة، لأسباب عديدة، منها أولا: أن حجم النفوذ الفرنسي يشمل حوالي ثلث القارة الأفريقية، وهو الأكبر على الصعيد الأوروبي. وثانيا: أن حدّة الموجة الأفريقية التي تستهدف النفوذ الفرنسي تتطلب قراءة لأبعادها وأسبابها العميقة ولا تحتمل أي محاولات للتقليل من شأنها. فقد أظهرت العمليات الأمنية والاقتصادية التي ساهمت بها ألمانيا والاتحاد الأوروبي خلال العقد الماضي، لإنقاذ السياسة الفرنسية في دول الساحل والصحراء، حدودها بل اصطدمت بتعقيدات الواقع المحلي والإقليمي وشراسة أدوار القوى المنافسة. ومن هنا قد تكون مراجعة الفرنسيين أنفسهم لسياستهم الأفريقية، خطوة حاسمة، ليس فقط لتقليل الخسائر الاستراتيجية التي تتكبدها فرنسا، بل يمكن أن تساعد الأوروبيين على وضع مراجعة شاملة لاستراتيجيتهم في القارة السمراء، التي يرى المحلل الفرنسي بوكالة بلومبرغ، ليونيل لوران بأنها "فشلت" معتبرا أن "انقلابات أفريقيا إعلان فشل السياسات الغربية في القارة". وقد ارتفعت الأصوات المنتقدة داخل فرنسا، إذ ذهب السياسي اليساري وزعيم حزب"فرنسا غير الخاضعة"، جون لوك ميلونشون، إلى اتهام الرئيس إيمانويل ماكرون بـ "تعريض فرنسا للخطر" في أفريقيا. بينما انتقد الرئيس الفرنسي السابق الاشتراكي فرانسوا أولاند "تأخر رد الفعل" في سياسة الرئيس ماكرون بالقارة الأفريقية. إذ يبدو أن محاولات القيام بمراجعات عميقة لمفهوم "أفريقيا الفرنسية" Francafrique، التي ظهرت منذ حوالي عقدين في خطاب النخب السياسية والفكرية الفرنسية وحتى على لسان زعماء مثل الرئيس الأسبق جاك شيراك، لم تذهب بعيدا على مستوى واقع الممارسة في السياسة الفرنسية بالدول الأفريقية. وأحدثها محاولات الرئيس ماكرون للتخلص من المدرسة الفرنسية النيوكولونيالية (مفهوم الاستعمار الجديد) التي تعتمد على علاقة الرعاية الأبوية مع الدول الفرانكفونية في أفريقيا، من خلال قراراته تقليص الوجود العسكري الفرنسي في تلك الدول والسعي لإقامة علاقات اقتصادية أكثر توازنا. وفي تعليقه على ما نقل عن الرئيس ماكرون قوله للدبلوماسيين الفرنسيين "مازلنا نميل إلى الحديث فقط إلى العواصم الأفريقية ومن هم في السلطة... علينا إعادة الانخراط مع المجتمع المدني. ومع هؤلاء الذين في المعارضة". اعتبر الخبير الفرنسي ليونيل لوران أن "هذا كلام جيد لكنه جاء متأخرا للغاية". وبقدر ما تشكله التحديات التي تواجه السياسة الفرنسية في القارة الأفريقية من معضلة لاستراتيجية أوروبا الأفريقية، فإن صياغة سياسة أوروبية موحدة هي بالأساس محل تشكيك كبير برأي المراقبين. فبينما تتنامى التحديات الجيوسياسية بالنسبة للاتحاد الأوروبي وتحتدّ المنافسة مع القوى الصاعدة، تزداد حاجة التكتل الأوروبي للفعالية في اتخاذ القرارات وتنسيق سياساته الأمنية والخارجية. لكن الاتحاد يسير حاليا بوتيرة بطيئة لأسباب هيكلية، وقد كشفت حرب أوكرانيا عن تأثيراتها على أدائه. وهو ما يحاول عدد من القادة الأوروبيين معالجته عبر مبادرات لإصلاح المؤسسات الأوروبية. ويبدو أن ضعف التنسيق الأوروبي وتضارب سياسات دوله ذات التأثير في محيطها المتوسطي والأفريقي، مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا، بقدر ما تظهر نتائجه اليوم في أزمات القارة الأفريقية وحتى على نطاق الجوار المغاربي، يمكن أن تكون تكلفة ضعف أو غياب التنسيق الأوروبي باهظة أكثر في السنوات المقبلة، بسبب تأثيره السلبي المتوقع على مستقبل الدور الأوروبي في القارة السمراء التي يعتقد محللون اقتصاديون واستراتيجيون بأن مستقبل الاقتصاد العالمي سيتحدد في جانب أساسي منه بأفريقيا. ويعني ذلك حتمية القيام باصلاح الاختلالات في الاستراتيجية الأوروبية عبرالتنسيق بدل الأدوار الأحادية وسد ثغرات استراتيجية حسّاسة بالنسبة لأوروبا مثل المنطقة المغاربية التي تعتبر الجسر الطبيعي بين أفريقيا وأوروبا، لكن علاقاتها بأوروبا تشهد تراجعات لحساب شركاء آخرين. القيم والمصالح .. أنانية أوروبية؟ هل بات نموذج الديمقراطية الغربية العنوان الثاني الذي تستهدفه حركة الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية، إضافة للنفوذ الفرنسي؟ ربما تكون سياسات الدول الأوروبية وأخطاؤها القاتلة في القارة السمراء هي ما يقدم الذرائع أو الحجج لاستهداف تجارب الانتقال الديمقراطي الهشة التي تشهدها دول أفريقية عديدة في السنوات الأخيرة. ويرى نقاد السياسات الغربية، أن العواصم الأوروبية وخصوصا منها ذات الإرث الاستعماري مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وحتى إسبانيا، تبني علاقاتها بالدول الأفريقية على تغليب مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية وعلى حساب قيم حقوق الإنسان والأسس التي تقوم عليها فلسفة الديمقراطية الغربية نفسها. جوزيب بوريل منسق السياسة الخارجية للإتحاد الأوروبي في اجتماع توليدو وحتى عندما وضع الاتحاد الأوروبي أفريقيا في سلّم أولوياته الاستراتيجية ورصد لها موارد مالية وتقنية وأمنية كبيرة، تحت شعار "مكافحة الفقر والفساد والهجرة غير الشرعية من أجل تحقيق التنمية المستدامة والحكم الرشيد"، فإن التدابير السياسية والاقتصادية التي اتخذتها الدول الأوروبية سواء في إطار التكتل الأوروبي أو بشكل منفرد، لم تتخلص من نظرة "المركزية الأوروبية" في التعامل مع الدول الأفريقية. ويظهر ذلك بشكل جليّ في سياسة الهجرة وقضايا حقوق الإنسان وملفات الفساد التي تلاحق نخبا سياسية وأمنية وعسكرية حاكمة، حيث تهيمن الاعتبارات الأمنية وكسب المصالح التجارية وموارد الطاقة والمعادن. ويبدو أن سباق الدول الأوروبية المحموم مع قوى منافسة - خصوصا الصين وروسيا وتركيا - لا تضع للقيم الحقوقية والإنسانية اعتبارات تُذكر، قد عمّق الفجوة بين السياسات الأوروبية والقيم. هذا الوضع استغلته النخب الحاكمة في دول أفريقية عديدة، لترسيخ منظومات حكم استبدادية، تستند إلى حكم عشائري وعائلي (حكمت عائلة بونغو الغابون لخمسة عقود ونيف) وإلى ديمقراطية واجهة، ولتوسيع هوامش مناورة بين القوى الدولية المتصارعة، بينما زادت أوضاع الناس بؤسا واتسع نطاق الفقر في دول تُصنف ضمن أغنى دول العالم بموارد الطاقة والمعادن النفيسة. وفي هذا السياق، باتت برامج أوروبية عديدة رُصدت سواء من قبل المؤسسات الأوروبية أو من دول أوروبية مانحة مثل ألمانيا، لدعم التنمية المستدامة ومكافحة الفقر مثلا في النيجر، أو لدعم حماية البيئة ومواجهة التغيرات المناخية مثلا في الغابون، لا تؤدي الغرض منها، مما أثار تساؤلات وانتقادات خبراء ووسائل إعلام بأوروبا. فقد أفرزت منظومات الفساد واستبداد منمّق بمؤسسات ديمقراطية الواجهة، حالة انسداد للآفاق أمام الشباب وشرائح واسعة من المجتمعات الأفريقية وضعف في أداء هيئات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة، ويأسا من جدوى نموذج "الديمقراطية الغربية"، ما مهّد الطريق لصعود النخب العسكرية باعتبارها القوة المنظمة الوحيدة تقريبا في تلك المجتمعات. ومن المفارقات أن النخب العسكرية الأفريقية (مالي، بوركينا فاسو، النيجر) استغلت في نفس الوقت الدعم الغربي المادي واللوجستي الذي كانت تتلقاه ضمن برامج مكافحة الإرهاب، ودعم خفي تتلقاه على مستويات أخرى من قوى منافسة للغرب وخصوصا روسيا عبر مرتزقة فاغنر التي زادت شراسة أدوارها مع اتساع تداعيات حرب أوكرانيا. وكان لافتا أن عمليات استيلاء النخب العسكرية على السلطة قد أُحيطت بأجواء تمتزج فيها مظاهر "البهجة" الشعبية للتخلص من أنظمة حكم فاسدة بنزعات شعبوية تظهر في تظاهرات بالشوارع أوعبر مواقع التواصل الاجتماعي تُصوّر العسكريين كأبطال ومنقذين. إجراءات استباقية؟ لم تتوقف تداعيات الانقلابات العسكرية على مصالح الدول الأوروبية في الدول التي حدثت فيها تلك الانقلابات التي ارتفع عددها إلى ثمانية في أقل من ثلاث سنوات، بل باتت الظاهرة تتسع في شكل مفعول دومينو لتشمل مناطق مختلفة من القارة الأفريقية. في هذا السياق يمكن فهم تحذير منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي من أن ما يحدث من انقلابات في عدد من الدول الأفريقية يمثل "مشكلة كبيرة لأوروبا". منصف السليمي، صحفي متخصص بالشؤون المغاربية في مؤسسة DW الألمانية وفي مواجهة مخاطر اتساع الاضطرابات لتشمل بلدانا أخرى كانت تُعد على مدار عقود الأكثر استقرارا وتربطها علاقات تحالف وثيقة مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، مثل السنغال والكاميرون وغينيا بيساو، تحدث مسؤولون أوروبيون عن ضرورة اتخاذ خطوات استباقية. إذ يبدو أن الإجراءات التقليدية المتمثلة في فرض عقوبات على شخصيات ومؤسسات، التي دأب الاتحاد الأوروبي على اتخاذها ضد القوى التي تستولي على السلطة بالقوة، على غرار ما حدث في مالي وبوركينا فاسو والسودان وصولا إلى النيجر، لم تؤت في كثير من الأحيان النتائج المنتظرة منها، حتى في ظل توسيع تلك العقوبات على نطاق دولي. مما يدفع دوائر القرار في المؤسسات الأوروبية والعواصم الكبرى المؤثرة للتفكير في صيغ جديدة من شأنها تحقيق الفعالية في الضغط على النخب العسكرية. وقد يبدو السعي للاعتماد على التنسيق مع القوى والمنظمات الإقليمية مثل مجموعة إيكواس (المجموعة الإقتصادية لدول غرب أفريقيا) أو إيكّاس (المجموعة الإقتصادية والنقدية لدول وسط أفريقيا) أو الاتحاد الأفريقي، محاولة أوروبية لتحقيق هدف الضغط على النخب العسكرية التي تسيطر على السلطة بالقوة، دون التورط مباشرة في مواجهة مع السلطات المحلية في تلك البلدان وتفادي سيناريو تأجيج مشاعر العداء ضد أوروبا والغرب، الكامنة أصلا على خلفية مقاومة النفوذ الفرنسي. وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بيربوك في حوار مع عدد من وزراء خارجية دول الإتحاد الأوروبي في توليدو بإسبانيا بيد أن نهج سياسة أوروبية استباقية يبدو على المدى المتوسط والبعيد مسألة معقّدة ستكون مخرجاتها مرتبطة بعوامل وأسئلة ذات أبعاد استراتيجية، منها، أولا: مستقبل اعتماد أوروبا على موارد الطاقة والمعادن بالقارة الأفريقية والتفكير في مقاربات تقوم على الشراكة وتنهي أشكال الاستغلال الموروثة منذ الحقبة الاستعمارية، ومراجعة الأسس التي تعتمد عليها برامج المساعدات التنموية باتجاه النأي بها عن النخب الفاسدة وجعلها أكثر قربا للمستفيدين منها من الشعوب. وثانيا: إعادة النظر في مناهج طرح قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والقيم الإنسانية بما لا يجعل شعوب أفريقيا ودولها تنظر إليها كإملاءات فوقية. وفيما تبدو محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة توخى المستشار الألماني أولاف شولتس أن يجدد دعوته، قبيل قمة العشرين المرتقبة في الهند، إلى "شراكة ندية مع الاقتصادات الصاعدة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية". الحقبة الاستعمارية .. تركة ثقيلة تتعرض سياسة فرنسا الأفريقية منذ عقود لوابل من الانتقادات وهي تعد من أكثر الدول الأوروبية الواقعة تحت ضغط ماضيها الاستعماري، سواء في غرب ووسط أفريقيا، أو في شمال القارة. حيث تواجه أسئلة حارقة حول ماضيها الاستعماري في الجزائر ورواندا وتُضاف إليها الآن موجة غضب في منطقة الساحل والصحراء. ولا تبدو الخطوات التي أقدمت عليها الحكومات الفرنسية في السنوات القليلة الأخيرة إزاء رواندا والجزائر قد أطفأت المطالب بتصفية الإرث الإستعماري عبر الاعتذار الرسمي عن جرائم الحرب وجبر ضرر الضحايا وتعويضهم. إذ ما تزال الفجوة بين باريس والجزائر قائمة بشأن هذا الملف الشائك. وبدورها كانت إيطاليا قوة استعمارية غاشمة في ليبيا، ونفذت في سنة 1911 أول غارات جوية في تاريخ الحروب وكان الضحايا بدو وقبائل في الصحراء الليبية. وفي محاولة لطي صفحات ماضيها الاستعماري الأليم أبرمت الحكومة الإيطالية برئاسة سيلفيو برلسكوني سنة 2008 اتفاقية مع العقيد الليبي الراحل معمر القذافي واعتذرت بمقتضاها روما عما سببته من مآس لليبيين وقدمت تعويضات مالية، في مقابل التزام طرابلس برفع صادراتها من النفط والغاز للجارة الشمالية والمساهمة في كبح الهجرة غير القانونية إليها. وفضلا عن أن مصير هذه الاتفاقية ظل معلقا بسبب التطورات التي حدثت بعد توقيعها ومن أهمها سقوط نظام القذافي سنة 2011، فان الحكومات الليبية المتعاقبة في السنوات العشر الأخيرة، ترى أن إيطاليا مطالبة بخطوة ذات مدى أكبر لطي ماضيها الاستعماري الأليم في البلاد. أجيال جديدة من الأفارقة تطالب بطي مخلفات الحقبة الاستعمارية الأوروبية وبدورها ظلت صفحات الاستعمار الإسباني الأليمة في شمال وجنوب المغرب مسكوتا عنها لسنوات طويلة. ووسط تجاهل حكومي في مدريد وصمت في الرباط عن الموضوع، وجهت هيئات غير حكومية في المغرب وإسبانيا خلال السنوات الماضية دعوات لمراجعة تلك الصفحات الأليمة من التاريخ الاستعماري الإسباني. وكشفت جمعيات وأطباء في شمال المغرب عن أمراض سرطان يعاني منها بعض سكان منطقة الريف بسبب مخلفات ما يعرف هناك بحرب الغازات السامة التي شنتها القوات الإسبانية في عشرينيات القرن الماضي وتسببت آنذاك في مقتل آلاف الأشخاص. وتعتبر حقبة ألمانيا كقوة استعمارية قصيرة نسبيا قياسا لفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، حيث بدأت منذ عام 1884 حتى الحرب العالمية الأولى. وفي ذلك الوقت، حكمت الإمبراطورية الألمانية أجزاء شاسعة من أفريقيا، بما في ذلك ناميبيا والكاميرون وتوغو وتنزانيا ورواندا وبوروندي. بيد أن ألمانيا بادرت في الآونة الأخيرة بخطوة تاريخية عبر تقديم اعتذار لناميبيا عن الإبادة الجماعية التي تعرض لها شعبا هيريرو وناما إبان الحقبة الاستعمارية لهذا البلد الجنوب أفريقي. وعندما يقدم بلد أوروبي له مكانة قيادية في أوروبا مثل ألمانيا على خطوة كهذه، فإن تبعاتها يمكن أن يكون لها مفعول الدومينو داخل أوروبا وفي علاقاتها مع مستعمراتها السابقة. ،فهل يعني ذلك أن ساعة الحقيقة قد اقتربت مثلا في علاقات فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا بمستعمراتها الأفريقية السابقة؟ ألا تعد خطوة من هذا القبيل كفيلة بإعادة العلاقات الأفريقية الأوروبية إلى نصابها؟ منصف السليمي
مشاركة :