الأخ الأكبر.. نعمة من الله عزَّ وجلَّ وهو قطعة من القلب والروح، وهو الذي يحمل عنا عبء الحياة وتحدياتها، وهو السند والذخر والصاحب الأول، ولذلك قيل: الأخ الأكبر هو الأب بعد الأب، وهو الإنسان الذي تستطيع أن ترتكز عليه بشدة وبقوة وتأوي إليه إذا ما عصفتك الهموم، فإنه سيضمك تحت جوانحه وتحت ضلوعه.. فهو أب وأخ في الوقت ذاته، قال عنه رب العالمين في محكم آياته: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} (35) سورة القصص. في محطات حياتي يلوح في أفق ذاكرتي سيرة أخي الأكبر من أمي ناصر بن إبراهيم الشريمي -رحمه الله- الذي كان مدرسة القيم الاجتماعية الأصيلة والشيم الفضيلة التي تعلمت منها الشيء الكثير في مختلف مراحل عمري، خاصة بعد وفاة والدتنا نورة الموينع -رحمها الله- وأنا في عامي الرابع وأخي ناصر يرتع في عامه الـ(12)، فكبرنا وكبرت معنا أحلامنا وآمالنا وتطلعاتنا نحو بناء مستقبل مشرق.. فشق طريقه بعصامية لنهل العلم والمعرفة في أعرق الجامعات الأمريكية قبل أربعة عقود زمنية. طوال حياته -رحمه الله- قدم أروع الأمثلة الأخلاقية وأجمل الدروس التربوية المستمدة من عمق إيمانه وسلامة عقيدته ونضج تفكيره الموضوعي، فعندما كان يحل ضيفاً في المجالس، كان يتحوّل بطيبته المتناهية وتواضعه الجم وخلقه العالي وثقافته الرصينة وحسن صمته، إلى مدارس علم وفكر وإثراء، ننهل من فصولها المعاني التربوية والقيم الإيمانية والمبادئ الاجتماعية السليمة التي شكّلت أبرز ملامح شخصيته النموذجية، فكسب -رحمه الله- في حياته رصيداً كبيراً في بنك العلاقات الاجتماعية لأنه كان يملك قلباً كبيراً اتسع حباً ومودّة لكل من تعامل معه عن قرب. والأكيد أن القيم التربوية.. من حسن الخلق والتواضع وحب الخير وجميل الإيثار والأدب الجم والطيبة المتناهية المتأصلة في شخصيته -رحمه الله- لا ريب هي قيم (فطرية) تولد مع بني آدم وهي منحة من الخالق عزَّ وجلّ، وعندما نغوص في أعماق حياته العصامية ونسبر أغوارهما، فقد وُلد يتيم الأب، وهو يرتع في عامه الرابع، ثم مات شقيقه الأصغر أخي (مساعد الأول) وعمره عامان فعاشت والدتي -رحمها الله- حياة كانت مليئة بالأحزان والوجوم على فقد زوجها إبراهيم الشريمي -رحمه الله- (25 عاماً)- ثم طفلها الصغير مساعد (عامان)، وبقي ابنها الوحيد (اليتيم ناصر) الذي حمل هموم والدته في صباه وعاش حياة مليئة بالتعب والمشقة وبناء مستقبله بكل كفاح ونجاح، حيث كان يدرس صباحاً ويعمل سائق أجرة بحثاً عما يسد حاجته وحاجة أسرته، ولم يكن مثل بعض الشباب (آنذاك) في محيطهم العائلي المرفّهين الذين وُلدوا ووجدوا النعمة أمامهم لقمة سائغة، إنما شق طريق بناء مستقبله وحبات العرق تنسكب من على جبينه لاسيما عندما تزوج وهو في سن 18 عاماً من زوجته الوفية (الجوهرة الداوود)، وكانت جدتي الراحلة (هياء السفيان) -غفر الله لها ولوالديها- في آخر عمرها التي فجعت لفراق والدتي 35 عاماً وحزنت أكثر، حيث كانت قبل وفاتها قد انتقلت للعيش عند حفيدها العصامي ناصر الشريمي في حي الثميري، وأصبح يقوم على رعاية أسرته وجدته معتمداً على الله عزَّ وجلَّ ثم على الدخل اليومي من سيارة الأجرة.. هكذا صبر وظفر بعد أن كابد في هذه الحياة، فبعد وفاة جدتي -رحمها الله- التي كان بارّا بها.. واصل تعليمه الثانوي ليلاً، ثم حصل على بعثة إلى أمريكا أواخر التسعينيات الهجرية، فقرر شدّ الرحال لنهل العلم والمعرفة من أعرق الجامعات الأمريكية، فحزم حقائب البر والخلقالتقوى والنية الصادقة والتوكل على الله، وكل ذلك كان -بعون الله- سبباً في توفيقه وفلاحه في حياته التعليمية والاجتماعية، قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2-3) سورة الطلاق، فبعد تخرجه من الجامعة وعودته لوطنه - أوائل الثمانينيات الميلادية - مرصّعاً بالعلم والمعرفة، حصل -رحمه الله- على وظيفة حكومية تناسب مؤهله العلمي الرفيع آنذاك، حيث فتح الله له باب الرزق المبارك والخير الوفير وسعة المال وراحة البال وبركة الأبناء فضلاً عن نعمة محبة الجميع، لأنه تخلّق بخلق الكبار من أدب وتواضع وصبر وإيثار وحب الخير وحسن التعامل ونقاوة القلب وسلامة المبدأ، فصدق مع الله في منهجه القويم ومسلكه السليم، فغادر هذه الدنيا الفانية بقلب سليم.. هكذا كان أخي القدوة الحسنة (أبو إبراهيم) النقي.. الوفي الذي رحل عنَّا بجسده وترك سيرته النيّرة وسمعته العطرة حاضرة في النفوس والوجدان. تغمده الله بواسع رحمته. ** **
مشاركة :