أنسي الحاج... خواتم الوداع

  • 3/12/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

هذه آخر ما كتب أنسي الحاج من «خواتم». كتبها ووضعها على حدة. لم يشأ أن يدرجها في جريرة الخواتم التي دأب على كتابتها في صحيفة «الأخبار» اللبنانيّة في الأعوام الأخيرة. وبعضها أصلاً بدا كأنّه كتبه في لحظات الانسحاب التي دفعه إليها المرض بعدما ازداد تفاقماً، وهي كانت لحظات مواجهة سافرة لِما خشيه شاعرنا طوال حياته: الموت... وبالسرطان. وهو كان خبِر هذا المرض الشرس مرّتين، مرّة مع أمّه باكراً ومرّة مع زوجته ليلى التي كتب لها وعنها أجمل نصوصه، وشاء القدر أن يُنشر بعد موته بين هذه الخواتم. إنّها آخر الخواتم، خواتم الخواتم التي لا خواتم لها على خلاف ما توحي به، ظاهراً. قراءتها تظلّ مفتوحة إلى حين تصبح القراءة نفسها ضرباً من الإلماح الروحيّ أو الفكريّ. ولا غرابة في أن تحمل هذه الخواتم، بخاصّة التي كتبها الشاعر تحت وطأة الوداع، مذاقاً لم نعرفه في مثل هذه الحدّة التي تخفي في قرارها كثيراً من الرقّة والعذوبة. إنّها لحظات المواجهة لا لحظات الاستسلام أو التسليم أو الندامة والاستغفار، لحظات يحدِّق فيها الشاعر في الموت وجهاً لوجه، يتفرّس فيه، خالعاً عنه هالة الرهبة، واصفاً إيّاه وصفاً لم يسبقه إليه أحد، لا المؤمنون ولا الملحدون ولا اللاأدْريّون: «فتحُ فجوة يدخل منها هواء عدم مُحرِّر». ما تُراه يكون هذا العدم المُحرِّر الذي يهبّ هواؤه من فجوة هي الموت؟ ولعلّ هذا العدم المحرِّر هو نفسه المكان الذي يقول الشاعر إنّه سيذهب إليه، «مكان تُسمَع فيه روحُك أكثر». ولعلّه أيضاً «قيلولة السكون» التي «ينتشر فيها غيابك ملغياً حسّ الحدود». قال الشاعر إنّ الروح تُسمع من غير أن يوضح مَن الذي يسمعها. إنّها الروح المسموعة بذاتها، مثل السمع الذي يُسمع بذاته. هو ذا العدم الممتلئ، عدم الله الذي هو وجه من وجوه حضوره اللانهائيّ. في هذا الصدد، يقول المتصوّف الألماني الكبير أنجيلوس سيلزيوس: «البارئ برْق وامِض، وهو أيضاً عدم قاتم». كانت هذه الخواتم آخر ما ترك أنسي الحاج. لم يترك قصيدة ولا سيرة. كانت الخواتم منذ أن بدأ كتابتها في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم، في مجلة «الناقد»، هي بمثابة اللقيا التي وقع شاعرنا عليها ليواصل «مهنة» التأسيس الجديد بعد «ضجره» من الشعر كما يعبّر في إحدى قصائد «الوليمة»، وضجره هذا لم يكن أصلاً إلّا اختباراً عميقاً للشعر نفسه ولو صمتاً على طريقة الشاعر الفرنسي مالارميه الذي عانى ممّا سمّاه أزمة «الورقة البيضاء». وجَد الحاج في الخواتم ضالّته التي كان ينتظرها وحلّت عليه كمِثل أعجوبة. ومفردة خواتم كان هو استنَّها أو ارتآها مجازياً، متخطياً المترادفات الشائعة لمفردة شذرات أو «أفوريسم» ومعجمها المتعدّد: أمثال، حكَم، توقيعات... ووفّق في هذه المفردة التي تجمع بين خلاصات الكلام وجوهره. وراح يوسّع فضاءها ويمعن في بلوَرة أساليبها ولغاتها وتحديث تقنيّاتها وحيلها إن أمكن القول، محرِّراً إيّاها من الإرث الأخلاقيّ أو «الإتيكيّ» والحكَميّ والوعظيّ الذي أرهقها طوال قرون. والأهمّ أنّ الخواتم، بصفتها «الأفوريسميّة» أو الشذْريّة، كانت استجابة للمأزق الوجوديّ الذي عاشه الحاج في زمن الحرب التي دمّرت أحلامه وآماله. وجَد في الخواتم ملاذاً له هو، لنفسه، كفرد معزول وأعزل إلّا من سلاح الكلمة، فرد هو «عصفور مخلّع على سنّ روحه». وراح أنسي من ملاذه ذاك يواجه عالماً يتفكّك، هو العالم الكبير أو البشريّة والعالم الصغير الذي هو الوطن والجماعة. جعل أنسي من فنّ الخواتم فنّ الفرد الذي يكتب بحريّة، صارخاً حيناً وصامتاً أو محشْرجاً حيناً آخر. وفي هذه الخواتم، بدا الشاعر الذي أدرك مشارفته الرحيل، كما كان دوماً، شديد التماسك، متوتّر العصَب، متعالياً وأنوفاً كعادته، مع أنّه لم يتمالك عن وصْف نفسه بـ «الرجل الهارب من قدَره، الغائص في عذابه، الذي قرّر ألّا يعود». لكنّ هذا «الرجل الممزَّق، كلّما أمعن في الهرب أمعن في العودة». ولطالما عاش أنسي الحاج حال هذا الهرب من قدَره والعودة إليه، لكنّه شاء في أحيان أن يتواطأ مع هذا القدَر ليكْنَه سرّه. استهلَّ الحاج مساره الشعري صارخاً صرخته المدويّة «لن»، اختار الليل فسحة حياة يوميّة على خلاف الجميع، منح حياته أو بدّدها بلا ثمن، سمع في دخيلته صوتاً يلاحقه فكان يفرّ منه ليخضع له من ثمّ... كان أنسي الحاج يعيش ليلَين، ليل الداخل وليل الخارج، ليل الروح العميقة الأغوار الذي يكمن فيه سرّ الأسرار، وليل الأرض أو الزمن الذي «استكشف سماءه» كما يعبّر. ويكشف ربّما للمرّة الأولى ما يسمّيه «التباس الاستغراق في الليل» قائلاً هو «غرام بالليل»، موضحاً أنّه «بدلٌ من ضائع هو نهار مشمس وظليلٌ خالٍ، كما في ساعات القيلولة، من الكائنات والحركة، إلّا نسمات الأرض والجسد». ولعلّها المرّة الأولى يتساوى ليل الشاعر بنهاره الذي كثيراً ما كان غائباً عنه. ويقول أيضاً: «ظلماتي في خدمة الشمس، تلك أوجاعي». كأنّما شمس الظلمات هذه، الشمس المشرقة في غور الظلمات هي النور الذي بحث عنه الشاعر ووجده كما لو لم يجده. لعلّه الأرق، ليلاً ونهاراً، في ساعات المكابدة، عندما لم يعد الشاعر قادراً على النوم، جعلَه يساوي بين كائنين لم يتصالحا يوماً في حسبانه: «نهار محرَّر مستعاد الأحلام، وهو ليل مخلَّص من غياهب الصدر». وأغرب ما يقول في خواتمه الأخيرة: «الموت في النهار مُحاط». لا تنتهي قراءة هذه الخواتم الأخيرة مثلما لم تنته قراءة الخواتم التي درج على كتابتها منذ آخر الثمانينات، بصفتها كتابة الما بين بين، بين النثر والشعر، بين الفكر والحدس، بين القول والمحو. في الخواتم شرع أنسي يبحث عمّا لم يجده يوماً ووجده، وعمّا لم يره سابقاً ورآه، أن يفكّر في ما لم يفكّر فيه واقتنصه. إنّها اللحظات الشعريّة تذوب في بعدها الفكريّ أو اللحظات الفكريّة تلتمع التماعاً شعريّاً. وفي كلّ ما كتب أنسي من خواتم كان فريداً ومتفرّداً، صوتاً صارخاً برقّة، مجروحاً مثل نسيم يهبّ من أقاصي الأرض والروح.     * يصدر كتاب جديد للشاعر أنسي الحاج بعنوان «كان هذا سهوا» عن دار هاشيت ـ انطوان ويضم نصوصاً غير منشورة. ويحوي الكتاب مقدمة للشاعرة ندى الحاج واخرى للزميل عبده وازن وهذا نصها. وللمناسبة وفي الذكرى الثانية لغياب الشاعر أنسي الحاج ينظم احتفال لاطلاق الكتاب تقدم خلاله قراءات بمشاركة الفنانة هبة القواس السابعة من مساء الاربعاء 16 الجاري في مسرح المدينة - بيروت.

مشاركة :