مساء الأربعاء المقبل تستعيد بيروت أنسي الحاج ، هو الذي لم يغب، بل، حاضر في الغياب مثل كل الذين حيواتهم حبات من الملح، وبضع نقاط من البخار كما تقول ابنته الشاعرة ندى الحاج، ولكن صاحب الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع ملح على حجارة ومياه، وبخار يتكثف على شجرة أو بالقرب من نبع. لا تستطيع الكتابة عن أنسي الحاج، إلا ويحيط بك الشعر من كل جانب جانب. رجل حولك إذا استحضرته، وإذا قرأته، وإذ عدت إلى خواتمه. لعل بيروت السياسة والسياسيين تهدأ قليلاً، ويهدأ جئيرها الطائفي، وجنونها المذهبي عندما تستعيد أنسي الحاج في ذكرى رحيله الثانية حيث سيتم إطلاق كتاب جاء بعد رحيله، هو أراد أن يكون الكتاب الخاتم الأخير في حياة رجل ليل أو رجل الليل. شعره شعر ليل. تأمل، وصمت. شعر قليل، ولكنْ كثير على الشرفات وعند ظلال الأطفال.. يقول: لم أكن إلا قليلاً في الأيام حيث كنت. لم يكن أنسي الحاج إلا أنسي الحاج. أيقونة من الشعر وبركات العزلة. ولكنها لم تكن العزلة المغلقة الانسحابية المرضية.. بل هي عزلة الشاعر في أقصى درجات إقامته في ذاته محروساً، ومحمياً من ذاته. كتاب أنسي الحاج الجديد، وقد نشرت الصحف أجزاءً منه.. هو مرة ثانية كشاف على طبيعته الهادئة. طبيعة الكتابة الهادئة أو النثر الهادئ في مزيج بالغ الخصوصية بين الشعر والنثر. البوح، التأمل، بل الحرية. حرية الكتابة، والإقامة في الكتابة إلى ما لا نهاية. أسلوب أنسي الحاج في خواتم معروف لكل من هو مصاب بأنسي الحاج. منذ سنوات طويلة في جريدة النهار، وإلى نقطة البخار الأخيرة وهو يرسم أو يصنع أصابع للخواتم، وهي أيضاً ليست خواتم للأصابع، بل هي أيضاً النهايات أو أقصى النهايات. أقصى القلب، وأقصى الروح. مرة ثانية هل بإمكاننا.. بإمكان اللبنانيين على وجه التحديد أن يصغوا جيداً لأنسي الحاج؟ أو يصغوا لما هو إنساني، وشفاف.. وحميم. لم يغرق أنسي الحاج في السياسة بمعناها اللاأخلاقي أو النفعي أو الانتهازي أو التبعي. لم يأكل على مائدة حزب، أو يتلقى هدايا جماعة أو طائفة أو مذهب. مذهبه الوحيد الشعر. ذهبه الوحيد الكتابة. يا الله.. ما أبعد لبنان على جوهره الثقافي المولود من قلوب كائنات (الملح والبخار).. كائنات قزحية وأقواس قزح. كائنات العفة، والسهو، والحنان. ما أحوج لبنان اليوم، وغداً، وبعد غد إلى العودة إلى ذاته في ذوات من مثل: أنسي الحاج، فيروز، جوزيف حرب، نصري شمس الدين، وديع الصافي، شعراء الزجل. روح الأرزة، بوح البحر. الخفة. الصداقة. الملح.. والبخار. كلما ابتعد لبنان عن جوهره هذا.. أو ابتعد عن مكونات هذا الجوهر غرق أكثر وأكثر في اللامبالاة، والسلاح والتطييف والتجريف.. تجريف الإنسان، وروحه، وأخلاقه، وأشواقه. كان أنسي الحاج يعيش في الليل، ربما لأنه لا يريد أن يرى ما يجري في النهار.. حيث النهار، كما يبدو، يوم السادي والمازوخي والمدجج بعمامة الموت. أنسي الحاج.. لا تغادر الوقت بارد، وعلى حواف الليل مرتزقة وشبيحة.. وقوّاصون. yosflooz@gmail.com
مشاركة :