«خواتم» أنسي الحاج لمعات بين الكينونة والعدم

  • 4/17/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

يقول شيلنغ فيلسوف ألمانيا الأكمل «إن كل إبداعٍ جماليّ هو وليد القلق أو الجرح الذي لا نهاية له». ويقول شوبنهاور «إن الكتب لا تعمّر طويلاً. وحدها تبقى تلك التي يضع فيها المؤلف نفسه». يصحّ هذان القولان في كتاب «كان هذا سهواً»، آخر ما كتب أنسي الحاج من تأملاتٍ وقصائدَ شذرية (دار هاشيت- انطوان، نوفل). لعلها فعلاً خواتم شعره وقد خُطت جُلُّها «في زوبعة الشدة»، أيام المرض الموحش، حيث الوجود معلق بين الكينونة والعدم، وحيث تأجّج الروح الإنساني يتبعثر ويتيه في غليان السؤال الأزلي عن الذات والحياة والحب والأدب والفن والإيمان والمرض والموت حتى ترتضي الروح مصبّها. في هذه الخواتم، ينسكب شعر أنسي الحاج، الذي ارتبط اسمه منذ الستينات بالسوريالية والحداثة وقصيدة النثر النابعة من التجربة الحياتية والمتحررة من كل ما يعيق «الأنا» من الظهور، في مواضيع الألوهة والكيان والمصير. ويتصاعد قاع ذاكرته إلى أديمها، «وتتلألأ الصوَر الأشدّ بساطة من كلّ ما كان يُظَنّ»، على إيقاع الازدواج بالجسد الواهن، المتروك «على سنّ روحه عصفوراً مخلّعاً تنتفض أجزاؤه من عجْز تلاقيها». لكنه، على رغم ألمه، يتبدى الحاج في خواتم خواتمه شاعراً مثقفاً جليَ الفكر، يفيض رقّة وعذوبة، وحدّة وعنفواناً، وبعثرةً وصفاءً، في مواجهةٍ للنفس مع الموت الذي ينتزع الكيان. فما الذي يا تُرى «كان سهواً»؟ أهذه الشذرات التي خطّت على هامش كتابة الشعر منذ تجربة مجلة «شعر» مع أدونيس ويوسف الخال وصدور «لن»، مجموعته الشعرية الأولى، والتي أثارت منذ نشرها عام 1960 ضجة كبرى في الأوساط الثقافية العربية انطلاقاً من مقدمتها، بعد أن اتُهم الحاج، ككل مبدع مجددّ، بالخروج عن المألوف في اللغة والشعر، وبانفتاحه على التجارب الشعرية العالمية وبالتركيز على الانسان الفرد في خصوصية لافتة؟ أم قصائد «الرأس المقطوع» و الوليمة» و «الرسولة» و «ماضي الأيام» و «ماذا صنعت بالذهب» وغيرها من المجموعات الشعرية والنصوص؟ أينظر الشاعر إليها كما لو أنها دون الغاية؟ أم الشعر نفسه؟ أم مأزق الأيام التي لم يكن فيها، على حدّ قوله، حيث كان «إلا قليلاً»؟ أم العمل الصحافي الذي بدأه في أواسط الخمسينات منذ التحاقه بجريدة «الحياة»، فـ «النهار»، ومن ثَمَّ في جريدة «الأخبار»؟ أم ترجمة أهم المسرحيات العالمية الى اللغة العربية كتلك التي وضعها برتولت بريشت وإيونسكو وآرابال وغيرهم من رواد المسرح الطليعي؟ يقول أنسي الحاج إن «للمرء الحقّ في إنكار حياته إنْ هي لم تشبه مُناه، وأن لا يعترف في عُباب هذا البحر المترامي وراءه إلاّ بحبّات من الملح وبضع نقاط من البخار». ولئن كان الوجود هذا الشيء اليسير من الملح والبخار، فلماذا يُحطمّ ويتناثر؟ وما الكون والشر والموت؟ وأين هو معنى الحياة؟ ومن هو سيد الكون والأقدار، «هذا المجهول الذي ينتظرنا»؟ هذه بعض التساؤلات التي تثيرها نصوص الحاج وشذراته الشعرية. سكبها، على حدّ قول نوفاليس، في صيغة «أفكار منفصلة» Abgerissenen Gedanken أو وفق المفردة الفرنسية في صيغة Fragments أوAphorismes ، لملاءمتها تأملاته الميتافيزيقية والدينية والأدبية. وشكلت هذه الصيغة عند العديد من شعراء العالم وفلاسفته، أمثال هيراقليطس وامبيدوقليس ونيتشه، أسلوب كتابة، جمع على إيجازه، كل محاسن الكلام المصوَّر والمنسوج نسجاً ذكياً على حدّ النثر والشعر. فهي تُؤمن باعتراف الحاج نفسه «المسافة» المطلوبة «بين طبقتين من الذات: ذات مُغمَضة وذات مفتَّحة تتفرَّس بها». يقول عبده وازن في خاتمة الكتاب إن مفردة خواتم هي المفردة «اللقيا» التي وقع عليها أنسي الحاج منذ الثمانينات، وكانت «بصفتها «الأفوريسميّة»، استجابة للمأزق الوجوديّ الذي عاشه في زمن الحرب»، ومن ثم في زمن المرض، بعد أن «وجَد فيها ملاذاً له «كفرد معزول وأعزل إلا من سلاح الكلمة». ولعل هذا السلاح هو الأمضى في قول الغربة التي عرفها الشاعر أيام الحرب اللبنانية فكانت «كلمات»، وفي قول الألم والحياة والتيه والتمزق الوجودي والهرب «من قدره الغائص في عذابه» والذي «كلّما أمعن في الهرب» منه «أمعن في العودة». فكلمات الخواتم، على إيجازها واقتضابها، هي مفتاح الوجود. تنقيه من دون تصّنع وتحوّله بواسطة اللغة الشعرية إلى ذهبٍ على طريقة الخيميائيين. ولعلها أيضاً خيط أريان الذي يمكننا من ادراك آخر الدهليز. فهي ليست وليدة النظم الأدبية والفلسفية، ولو استشهدت بعددٍ لا يستهان به من المفكرين الروحانيين والماديين. وهي ليست كذلك وليدة الدين، ولو استحضرت في نفسٍ بيبلي، أنبياء وأعلام العهدين من آدم وابراهيم واسحق ونوح وأيوب الى المسيح، وقد توغل الشاعر في اعماق أسفارهما حتى الثمالة. بل هي من نتاج الروح المهاجر الى كل أصقاع المعلوم والمجهول. إنها مدوّنات وجودٍ وتمارين تعلّم، مسالكَ مرورٍ ومعَالِم استدلالٍ لتجربٍة داخلية ومساءلة، أدركت، في لحظات الصراع مع الفكر والألم، الذروة. يكتب أنسي الحاج قائلاً: «إن صخب الحياة يرافِق الولادة والحَبْوُ الأوّل يلهي عن إدراك أخطار المشروع»، لكن الجسد «في منتهى الهدوء، يقدّم لك الألغاز والأسئلة التي كانت مكتومة بداعي مرور الحياة». ولعل لغز الموت الذي بدأ الشاعر بمعاناته معاناة قاسية وقد لاح له بعد أن أوشك الجسد المنهك على الغياب، يحتل في هذه النصوص حيزاً بارزاً. فما هو الموت؟ أهو هذه «الفجوة» التي «يدخل منها هواءُ عدمٍ مُحرِّر»، حيث «تُسمع الروح أكثر»؟ أم هو هذا العدم حيث «لا أحد هناك يقبض» اليأس، وحيث ينتشر الغياب «في قيلولة السكون ملغياً حسّ الحدود»؟ أم هو بعضٌ من نسمة حياة بما فيها من ملء ونقصان؟ ولعله، وفق تعبير الحاج أيضاً، هذا «الركن الصافي حيث لا تحْضر سوى الأرواح الحاسمة»؟ لم يسبق لي أن قرأت وصفاً للموت بصورة الفجوة وهواء العدم المحرِّر والقيلولة و «حضور الأرواح الحاسمة». ثمة نصوصٌ قديمة جعلت من الموت رمزاً لكل ما هو بائدٍ ومدمرٍ للوجود. وثمة نصوصٌ وحكايا أخرى رأت فيه، في مفارقة ظاهرة، مدخلاً لعوالم الجنة والجحيم وطقساً من طقوس العبور. روت أسطورة أغريقية قديمة أن الموت هو ابن الليل وأخو النوم، وقد ورث عنهما القدرة على الانبعاث والتجدّد. لكن الموت في شذرات أنسي الحاج يلوح مختلفاً، وقد أطلّ عليه في رؤية خاطفة، ثم لازمه حتى آخر شوط. ويبدو أن بعض هذه الخواتم هو عودٌ على سيرة لم يكتبها الشاعر، لكنه أفصح عنها جزئياً في متن بعض الشذرات. فها هو يستعيد إيقاع حياته ويعترف بأنه لم يعرف «غير سماء الليل» وبأنه حول «ظلماته» إلى نهار وشياطينه إلى شموع ونوافذ. وبأنه أعطى سماء «الليل اندفاع النهار»، ونفخ «فيها شمساً»، ونظَّفْها «من نجومها المسلولة»، حتى أنساها وحشة عدَمها وصارت تحبّه! فعلى خلاف العوام، عاش أنسي الحاج وكتب أجمل شعره ليلاً. فالليل الذي استغرق فيه كان وفق تعبيره بَدَلاً «من ضائع»، نهاراً مشمساً وظليلاً خالياً، كما في ساعات القيلولة، من الكائنات والحركة، إلاّ نسمات الأرض والجسد». وإذ يلتفت الشاعر إلى حياته التي «توتّرتْ واتّضعَتْ وتفلَّتتْ وضاعتْ وأُكلتْ وفي لحظة لم يبقَ شيء»، يفاجئك في «مُشارعته البارئ»، من زاوية الأرق «بهاجس الحقّ» والوجود. فيحفْرُ في الهاجس، و «يُتابِع الحَفْر، حتى ينبجِسَ اللبّ من الطرف الآخر»، ليصبح الحق عنده وليد تمخض ومواجهة، تتنقل الروح فيه بين التساؤل والرؤية، بين الحضور والتلاشي. ولعله في حفره هذا يقارب اختبارات كبار الروحانيين والمتصوفة كالمعلم إيكهارت ونيقولا دي كوزه وتريزا الأفيلية. من يقرأ خواتم أنسي الحاج هذه يُفتنه وهجُها الهادر. ففي زمنٍ فتكت فيه السطحية والسكون البليد الألوف المؤلفة من البشر، الذين ما عاد يستوقفهم سؤال المعنى، يجيء هذا الشعر الشذريّ في فورانه ليضيء سراج السؤال وليُؤثر، في شكلٍ مباشر أو غير مباشر، على أحاسيسنا وطرائق تفكيرنا، فينساق التأمل فيه تلو الآخر ليمّس بواطن النفس، لا بل كل الكيان. فخواتم «كان هذا سهواً»، ككل قصائد أنسي الحاج ونصوصه ذات المواضيع المختلفة من أدبية وفنية ووجودية، ليست على جمالية صورها الشعرية وشحناتها العاطفية الطالعة من أعماقٍ داخلية، مجموعة كلمات تردّد، بل هي قصة كل واحد منا مع الحياة والحب والألم والتيه والموت والألوهة التي يدخل الشاعر، كل لحظة معها، في حوار يكشف عمق الوجود. ففي شعر الحاج، لا إغراق في القول ولا التواءات، بل تدوين لومضات وأفكار شديدة الذاتية، تُبرق كالشهب لحظة عبورها في فضاء الروح القلقة، فتنسكب على الورقات البيضاء لتضيئها، فيستريح الشاعر ويغوص القارئ في نصوص تكسر كل القيود.

مشاركة :