منذ أشهر وسعاد تلاحظ على طفلها، الذي لم يكمل سنته الثالثة بعد، انعزاله وأحياناً غيابه في شكل كامل عن محيطه وألعابه، بعكس خبرتها مع إخوته الثلاثة الأكبر منه. فهو في أحيان كثيرة ينسى وجوده الى جوارها، فيما يحاول إخوته اللعب معه من دون فائدة. كانت سعاد تجد دائماً أعذاراً لحالات طفلها الغريبة، الذي كان يبدو طبيعياً في جسده. لكن إحدى جاراتها لفتتها مرة قائلة: «طفلك ربما يعاني مرضاً نفسياً وعليك مراجعة طبيب». هذه الكلمات بقيت توخز وعيها كلما تذكرت سعاد أن طفلها لا يستطيع لفظ كلمات بسيطة، ولا يعبأ بها إذا غادرت المكان أحياناً وتركته. فقررت عرضه على طبيب الأسرة في أحد المراكز الصحية في وادي الاردن (غرب عمّان) حيث تقيم في إحدى قراه المتعبة بالفقر والحرمان. عندها صدمها الطبيب بضرورة عرضه على طبيب نفسي، وأبلغها أنه يشكّ بإصابته بمرض التوحّد. لم تحتمل سعاد ما سمعت، وبدأت تتلعثم، وتتفوه بكلمات غير مفهومة لمعرفة المرض، الذي لم تستطع لفظ اسمه في شكل صحيح، فهي لم تسمع به من قبل. معاناة سعاد لم تقف عند المرض، فهي لم تجد في كامل منطقتها مركزاً للتعامل مع الحالات المبكرة من مرض التوحّد، ما يعني أن إبنها لن يتلقى علاجاً صحيحاً، خصوصاً أنها لن تستطيع إحضاره إلى عمّان في شكل دائم، بسبب ارتفاع كلفة المواصلات وانخفاض دخل أسرتها التي تعيش في أشدّ جيوب الأردن فقراً. فيما تعاني أسرة أم محمد من التواصل مع ابنها الذي لم يتجاوز الـ12 سنة، خصوصاً في الاندماج مع أسرته في أحيان كثيرة... فهو غائب عن مشاكلها وكأنه غير موجود، وفي الغالب لا يبدي أي اهتمام بما يحدث لأشقائه، حتى أنهم بدأوا يتعاملون معه وكأنه ليس فرداً منهم. وتشرح أم محمد ألمها جراء ذلك، وتقول إن أقرانه الأصحاء تجاوزوه في المراحل المدرسية، فيما هو يجتاز الصف الدراسي بعد سنوات بصعوبة بالغة، بسبب عدم وجود مدرسة في منطقتها في البادية الجنوبية تعنى بمثل حالته. ويواجه عدد من أسر أطفال التوحّد معاناة حقيقية تتمثل في غياب الوعي بكيفية التعامل مع أبنائهم وصـعوبة إلحــاقهم بمــدارس متــخصصة، لما يتــرتب على ذلك من مبالغ طائلة لا تقوى عائلات كثيرة على تأمينها. ويقدّر عدد الأطفال ذوي التوحّد في الأردن بنحو 8 آلاف طفل. وتفتقر الفئة العمرية دون الثلاث سنوات الى مراكز تدخّل مبكر تتعامل معهم وفق خصائص نموهم وطبيعة المرض، وذلك وفق أستاذ التربية الخاصة في الجامعة الأردنية الدكتور رائد الشيخ ذيب. ويشرح الشيخ ذيب، الذي تولّى برنامجاً تدريبياً لأمهات ذوي التوحد، أن هذا المرض «اضطراب نمائي معقد ومتداخل يظهر في السنوات الثلاث الاولى من عمر الطفل ويؤثر سلباً في تفاعله الاجتماعي وفي لغته وسلوكه واهتماماته»، موضحاً أنه لم يعرف على وجه الدقة أسباب التوحّد، والمطروح منها مجرد فرضيات قد تكون دقيقة للبعض وغير دقيقة للبعض الآخر. وأضاف الشيخ ذيب أن هناك مناهج علاجية تقدّم لهؤلاء الأطفال، منها ما هو مثار جدل علمي كونه يفيد بعضهم فقط، مشيراً إلى أن البرامج السلوكية هي العلاج المثبّت علمياً، والذي استفاد منه الأطفال على اختلاف حالاتهم وشدة توحّدهم، مظهراً أن الأطفال ذوي التوحد يحظون باهتمام متزايد على المستويين الرسمي والشعبي، ويتزامن مع مطالب تنادي بتطوير الخدمة المقدمة اليهم، سواء العلاجية أو التعليمية. ويعاني هؤلاء من عدم وجود مرجعية علمية، لتشخيص حالاتهم، لا سيما أن هناك خلطاً بين التوحّد والإعاقة العقلية، وغياب المرجعية الادارية للمراكز المعنية بمرضى التوحّد، ما يسهل تنصل جهات من مسؤوليتها تجاه المرض، إلى جانب ارتفاع رسوم التسجيل في المدارس الخاصة القابلة للدمج. وتكشف والدة الطفل زيد، وهو من ذوي التوحّد، أنها أنفقت على علاجه نحو 30 ألف دينار، وذلك عند إخضاعه للعلاج بالاوكسجين، بعد تلقيها تطمينات بالشفاء، مطالبة بأن تكون ثمة رقابة وضوابط تحكم آلية عمل تلك المراكز، التي تدعّي العلاج بهذه التقنية. كما تتعدد أوجه المعاناة لدى الأطفال «المتوحدين»، لا سيما عند علاج الأسنان، فـ «تشكو» أم موسى من لجوء طبيب غير اختصاصي إلى تخدير طفلها في شكل كامل، للسيطرة على حركته إثناء العلاج وما يتبع ذلك من معاناة جسدية ونفسية.
مشاركة :