النظرية الواقعية () ذات انتشار واسع في الحياة المعاصرة، وتتمتع بزخم تاريخي مستمر، فهي قديمة ومعاصرة، متجددة، لها فلاسفتها وعلماؤها وأساتذتها وأتباعها ومحبوها ومُريدوها وتلامذتها ومدارسها في العالم، قاطبة، بغض النظر عن قومياتهم وأجناسهم وأعراقهم ومعتقداتهم وإيديولوجياتهم وأوطانهم، ودرجات التأثر بها متنوعة، ومستويات الإيمان بها، مختلفة، والنظرية الواقعية تُستخدم على نطاق واسع في عالم الأكاديميا، كأساس نظري علمي لدراسة الظواهر والأحداث والمتغيرات، سواء تم استعمال كل النظرية أو أجزاء منها. للنظرية الواقعية جذور فكرية وتطبيقية إصلاحية، ومساهمات قدمتها في تنظيراتها العلمية الكثيفة وإنتاجها الفكري والأكاديمي الكبير عبر التاريخ، وهذه الجهود لا يمكن نكرانها، فالنظرية قوة دفع مركزية فكرية منهجية تحليلية طاغية مهيمنة، تفاعلاتها تراكمية، رأسية وأفقية في المجتمعات، وشاملة. وقد انبثقت جذور تحليلات النظرية الواقعية من الإنسان ذاته، حين وضعت فهماً معيناً للإنسان، حيث وصلت لنتائج محددة، كما حللت معتقدات وسلوكيات الأفراد، وتفوقت في تحديد ومعرفة وتحليل طبائع بشرية سيئة، سَمتها وجعلتها أساساً في الشخصية البشرية، ووضعت تصورها الاجتماعي، من زوايا معينة، وقامت بالربط بين الواقع الاجتماعي، والعالم الاجتماعي، من جهة وبين البيئة الخارجية، والكَون، من جهة أخرى، في نسق متصل، وبذلك تَشَكل العالم الواقعي، أو وفق النظرية الواقعية، صراع لأجل القوة. النظرية الواقعية حققت نجاحات مبهرة ومدهشة في التأصيل العلمي والتنظير والتأثير والانتشار، غير أن طرح النظرية الواقعية الأساسي خلق إشكالية في الحياة. يرى نيكولو ماكيافيلي ( ) (1469-1526) أن كل الناس أشرار وأنهم سوف يقومون بتصريف الخبث الموجود في عقولهم عندما تسنح الفرصة، وعليه يتم التعامل معهم على هذا الأساس. لهذا تَلَمسَ بعض العُلماء، من المدارس الفكرية الإنسانية/ الأخلاقية/ الجمالية/ الاجتماعية/ المثالية/ التنموية/ وهي المناوئة للواقعية، جذور التسلط والقسوة والشدة والجبروت والأثرة والاستئثار والاستغلال هنا في الفكر الواقعي الميكيافيللي الذي رَسخَ حالة التضاد والتنافر والتناقض والتدابر بين الأفراد وفي المجتمعات. ويقرر توماس هوبز ( ) (1588- 1679) حالة الفكر الواقعي عبر افتراضات مهمة، مثل، أن البشر متساوون في الفعل، وفي المقدرة وفي الغاية، القوي قادر على إيذاء الضعيف، وأيضاً الضعيف قادر على إيذاء القوي، بطريقة معينة، وبالتالي فالقوي والضعيف متساويان في الحالة الإيذائية، كلٌ منهما قادر على إلحاق الضرر بالآخر. تغدو رسالة الضعيف للقوي أني أنا جيد مثلك ومن حقي أن أحصل على ما تحصل عليه (على الأقل). غير أن هذه الرسالة الضمنية، وقد تكون العلنية، للضعيف، يواجهها واقع مُعاكس، واقع اللامساواة، والأنانية، والجشع، الذي يمنع حدوث المساواة الفعلية، والعدالة، فيحدث الصراع، ويغدو العداء حالة اجتماعية، متأصلة، في المجتمع، ومستمرة، بين الأفراد. التفاعلات الإنسانية تنطلق من أجل تحقيق مكاسب ومنافع ومصالح، وتأمين السلامة، وإبراز السمعة، وتحقيق الشهرة، وهذه محددات العمل الإنساني، وهكذا يحدث الاستباق بين الأفراد، فتنشب النزاعات، وتقوم الصراعات، وتنشأ الحروب، بصورة طبيعية، وهي في الأصل حروب اجتماعية تتطور إلى حروب على نطاق أوسع، فكل حالة نزاع تتحول بسرعة لحالة عنف، والعمل البشري في أصله صراعي، ولذا، فإن نطاقات التعاون محدودة، وتتزايد درجات الخطورة في الحياة. وكما يرى توماس هوبز هي حالة حرب الكل ضد الكل، وهي حالة تمرد كل واحد ضد الآخرين. وقدم إدوارد هالت كار (1892-1982) في كتابه الشهير أزمة العشرين العام، ( )، نقداً للرؤية التي وصفها بالمثالية التي لم تستطع على حد تحليله أن تمنع نشوب النزاعات والخلافات وتطورها إلى حروب. وأوضح أن هناك خطورة في التركيز على ما سوف يكون، حيث تطغى الأماني على التفكير، والتعميم على الملاحظة الدقيقة، والغائية على التحليل. هذه المشكلة، من وجهة نظره، تتطلب، وبصرامة، جعل القوة أساساً في السياسات، مما يعني أن القوة ركناً في التعاملات، مُستبعداً أن تكون المبادئ العالمية مثل: السلام، المصالح المشتركة، الأمن الجماعي، التجارة الحرة، مبادئ في أصلها، فهو يرفض أن تكون هذه مبادئ كونية، بل وصفها بأنها انعكاسات لمصالح وطنية، وذاتية، وخاصة، وتحقق أغراض خاصة، في وقت معين، وأنها ليست أكثر من انعكاس لمصالح نُخَب مسيطرة، وتعبير عن اتجاهات أنانية لطبقة اجتماعية غنية مهيمنة تقوم بصياغة المبادئ العامة وفقاً لمصالحها الخاصة. لا توجد مصالح كلية، وطبيعية بين الأمم، وإنما هناك قوى اجتماعية غير متماثلة القوة، تتصارع، وإذا برزت مصالح مشتركة، بينهم، فهي شكلية، ظاهرية، غير حقيقية، حيث إن الحالة الطبيعية هي حالة الصراع لأجل القوة. صوت القوة الراجحة دائماً هو الذي يطغى ويكون على حساب الضعفاء والأطراف الأقل حظوة والأقل تمتع بالمميزات، والأخلاق هي وظيفة للسياسات، فالأخلاق نتاج القوة، وهذا هو الواقع الحقيقي المُعاش. الدكتور هانز مورغانثو (1904-1980)، الأستاذ بجامعة شيكاغو، وعالِم الواقعية المتفرد في القرن العشرين، مُؤلِف (سياسات بين الأمم) ( )، الكِتاب الأشهر في عالم النظريات العلمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية والسياسية، وقد كتبه والحرب العالمية الثانية تضع أوزارها، قد طور من طرح إدوارد هالت كار، حين رَسخَ بتحليلاته مبادئ النظرية الواقعية، التي أكدتها وقائع الحرب العالمية الثانية، فطرحه الفكري قد أكدته تطورات الحرب، وكتابه في حقيقة الأمر ليس فقط إثباتاً للنظرية الواقعية، بل هو عبارة عن دعم علمي فكري كامل لأهمية وجود قوة عالمية قائدة ومهيمنة، تُدير وتُنظم العالم المضطرب، الذي تمزقه طبائع الإنسان الشريرة. هانز مورغانثو، حدد مفهوم النظرية العلمية في أُطر مادية محسوسة وملموسة وحقائق مشاهدة، مُستبعداً العوامل غير المادية ()، ويرى بأن طبيعة الإنسان، وطبيعة المجتمع، وطبيعة السياسات مترابطة. الطبيعة البشرية في أصلها غير سَوِية، غير راشدة، وهذه الحالة غير السَوِية وغير الراشدة للطبيعة البشرية لها انعكاساتها السلبية في البُنية الخارجية والدولية، فتغدو نزاعية، تبعاً للحالة الاجتماعية، وتبعاً للحالة الثقافية، التي هي في أصلها نزاعية. في هذه الحالة، العالَم الاجتماعي، وثقافة المجتمعات، لها تأثيراتها في البيئة العالمية، فالعالم امتداد للمجتمعات، والعالم تستحوذ عليه مصالح متضاربة. السرد الفلسفي الواقعي استطاع تحديد ورسم خريطة ذهنية ضخمة للنفس البشرية غير السوية وغير الراشدة، وحدد سِماتها، بالتفصيل، وذكر معالم الفقر الأخلاقي بوضوح، وتناول الأزمة البشرية المسببة للحروب والنزاعات، وعَرف العدوانية بدقة، على المستوى الاجتماعي، غير أن السرد الفلسفي الواقعي جعل ذلك أساس في الذات البشرية، وعممها، وجعلها لازمات إنسانية، ولم يضع علاجات لها، ولم يؤسس لأبحاث تكميلية تفصيلية دقيقة تضع فهوماً أشمل، سوى مركزية الحل لدى النظرية الواقعية عبر استخدام مبدأ القوة. السرد الفلسفي الواقعي مادي الاهتمامات، يُؤمن بمبدأ القوة كبؤرة مركزية طبيعية تحكمنا وتوجهنا ونسعى لها في الحياة، وغالباً القوة المقصودة هي القوة المادية، أوهي كذلك، مربوطة بتحقيق المصالح، وهذا يخلق وعياً إنسانياً واقعياً بأهمية امتلاك القوة على كافة المستويات، الفردية والمؤسساتية والمجتمعية والدولية، يجعلها في سعي حثيث، وجهاد مرير، متواصل، لتحصيلها، كغاية مُثلى، وهدفاً أسمى، ولأغراض حمائية، ويتطرف مبدأ تحصيل القوة ليصبح مبدأ تكثيف القوة وتعظيم القوة، يجتر موارد مُتعاظمة له، ويستنزفها، والاستنزاف يطال الأفراد والمؤسسات والمجتمعات، والتي قد تتوتر وتنحو للنزاع وتنهار، من شدة وطأة مبدأ القوة، والالتزامات المترتبة عليه. هذه هي إشكالية الحياة التي تصنعها النظرية الواقعية.
مشاركة :