كتبتُ على هذه الصفحة في 5 سبتمبر الماضي عن أزمة النفوذ الفرنسي في أفريقيا بعد انقلاب النيجر الذي وقع في يوليو الماضي ليكون ثالث انقلاب في غرب أفريقيا يتبنَّى توجهاتٍ مناوئةً لفرنسا. ومع ازدياد التدهور في العلاقة بين فرنسا والمجلس العسكري الحاكم قرر الأخيرُ في 25 أغسطس طردَ السفير الفرنسي. وكان رد الفعل الفرنسي هو الرفض استناداً إلى أن المجلس لا يمثل سلطةً شرعيةً من حقها أن تمارس الحقوق التي يمنحها القانونُ الدولي للدول في علاقتها بممثلي الدول المعتمدين لديها، ومنها حقها في اتخاذ إجراءات ضدهم حال إتيانهم تصرفاتٍ تتعارض مع مصالح الدولة المضيفة. وتتدرج هذه الإجراءات لتصل في أشدها إلى طلب الدولة المضيفة من سفير لديها أو أي عضو في السفارة مغادرةَ أراضيها. وقد أثار لديَّ هذا الموقفُ الفرنسي من طلب طرد السفير تساؤلات قانونية، إذ لا أذكر أني صادفتُ موقفاً مماثلاً، وإن بدا هذا الموقف منطقياً من المنظور القانوني، فطالما أن الحكومة الفرنسية لا تعترف بالجهة التي طلبت الطردَ يبدو مفهوماً ألا تلتزم بتلبية طلباتها. وقد حاولتُ البحثَ في التأصيل القانوني لهذه الفكرة فلم أجد ما يسعفني، وبقيتْ تلك الفكرةُ المنطقيةُ البسيطةُ أساساً لفهم الموقف الفرنسي. لكن للسياسة الواقعية بالتأكيد منظوراً آخر لا يتطابق بالضرورة مع المنظور القانوني، ومفاده أنه إذا كانت مصلحتك تملي عليك موقفاً معيناً فيجب أن تمتلك القوة اللازمة للتشبث به وفرضه على الآخرين. ويبدو أن القرار الفرنسي آنذاك قد بُنِي على أساس تصاعد الزخم المناوئ للمجلس العسكري وتَوقُّعِ انهياره السريع عن طريق تدخل عسكري من «الإيكواس» -كان واضحاً أن فرنسا تدعمه من حيث المبدأ- يحسم الأمرَ لصالح الحكومة التي أطاح بها الانقلابيون، ويحفظ لفرنسا نفوذَها، ويشهد لها بالالتزام الصارم بالشرعية القانونية. غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفينة الفرنسية، إذ لم يحدث التدخل العسكري بسبب المعارضة الداخلية الواسعة في بعض دول الإيكواس وعلى رأسها نيجيريا، وكذلك معارضة قوى إقليمية أخرى كالجزائر، ناهيك بإعلان مالي وبوركينا فاسو استعدادَهما للتدخل مسانَدةً للنيجر ضد أي عمل عسكري، فضلاً عن معارضة قوى دولية لها وزنها مثل روسيا والصين والموقف الوسطي للسياسة الأميركية، بل ومعارضة قوى داخلية فرنسية لسياسة ماكرون الذي لم تكن المشاكل الداخلية تنقصه. وهكذا أعلن ماكرون في 24 سبتمبر المنصرم، أي بعد شهر من اعتراضه على قرار المجلس العسكري بطرد السفير الفرنسي، أنه سيسحب السفير، وأن الـ1500 عسكري فرنسي الموجودين في النيجر سيُسْحبون بدورهم في الأسابيع والشهور القادمة قبل نهاية العام الجاري، وهو ما اعتُبر تأكيداً لتراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، وإشارةً إلى أن القرار الأول برفض سحب السفير لم يكن مبنياً على حسابات سليمة. والمشكلة أن هذا التراجع يحدث في وقت يتصاعد فيه النفوذان الروسي والصيني، وتعمل السياسة الأميركية على الحفاظ على نفوذها. ويمثل هذا مؤشراً جديداً على تراجع النفوذ الفرنسي دولياً وليس فقط في أفريقيا. ويذكرني هذا مع الفارق بواقعة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والذي شاركت فيه فرنسا وعارضَه كل من الاتحاد السوفيتي آنذاك وكذلك الولايات المتحدة التي سبق لها أن اصطدمت بالمصالح الفرنسية عبر تحالفها مع بريطانيا وأستراليا عام 2021، وأدى التحالف لخسارة فرنسا صفقةَ غواصات لأستراليا قُدرت قيمتها بنحو 55 مليار يورو. *أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة
مشاركة :