نظرًا لحداثة المذاهب الفكرية في الواقع العربي إذ لا توجد دراسات علمية محايدة فمعظم تلك الدراسات يكتنفها قدر كبير من الغموض والإبهام ولا تأخذ سبيل الحياد العلمي وإنما أقرب ما تكون إلى ردود الأفعال وفي الوقت نفسه لا تخضع تلك المذاهب الفكرية لنسق عقلي نؤمن به عن اقتناع عقلي ووجداني. مما يحتم إعادة كتابة المذاهب الفكرية وفق رؤية علمية وأسس موضوعية ومنظور محايد. ففي محاضرة علمية في مركز الثلاثاء الثقافي تحدثت عن أحد فروع تلك المذاهب الفكرية وهو الليبرالية في قراءة تحليلية لمبادئها وأفكارها وتعاليمها ومناهجها الفكرية وأصولها وأسسها التاريخية والفلسفية وخصائصها ومجالاتها وتحولاتها التاريخية والفلسفية. فالفكر الليبرالي نظام فكري فلسفي متداخل، كل دارس ينظر له من زاويته الخاصة، فمن الباحثين من ينظر له من زاوية فكرية، وآخر من زاوية اقتصادية أو من ينظر له من منظور سياسي أو فلسفي أو إنساني كلٌّ بحسب وعيه وفكره ومنهجه وفلسفته. والليبرالية تختلف من مكان إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر. وقد اعتمد الفكر الليبرالي في مصادره الرئيسة على كتابات فلاسفة التنوير كجون لوك [1632 - 1704م] وآدم سميث [1732 - 1790م] وجان فرانسوا فولتير [1694 - 1778م] وجان جوك روسو [1712 - 1778م] وجيرمي بنثام [1748 - 1832م] وأليكسيس دي توكفيل [1805 - 1859مچ يرى أن الفكر الليبرالي لم يتشكل على يد مفكر واحد أو في زمن واحد بل اشترك في وضع أصوله عدد من المفكرين في أزمنة وأمكنة مختلفة، فهو خلاصة تجربة إنسانية امتدت لأربعة قرون شكلت نمطًا فكريًا عامًا ومنظومة متشابكة من المبادئ والأفكار والمعتقدات والقيم والمناهج. فالليبرالية كغيرها من الظواهر الفكرية تحمل دلالات ومناهج وطرائق مختلفة ومتباينة، ولا يوجد نظام فكري محدد يتفق عليه الدارسون، ويرجع الباحثون السبب في صعوبة تحديد المفهوم لارتباطه بإشكالات كبرى تعاني منها أغلب مفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية. وفي هذا يرى المفكر ياسين الحافظ أن الليبرالية منظومة من الأفكار والقيم والمبادئ التي تكونت في الغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وترى الموسوعة الأمريكية الأكاديمية أن الليبرالية فلسفة سياسية تركز على الحرية الفردية. وتنظر الموسوعة الفلسفية إلى أن الليبرالية كغيرها من الظواهر الفكرية تحمل دلالات مختلفة ولا يوجد اتفاق حول مفهوم محدد لها، ويتفق جميع الدارسين على عدم الوصول إلى تعريف دقيق متفق عليه، بل إن الإجماع على تعريف واضح ودقيق لمفهوم الليبرالية أمر غير ممكن وربما عديم الجدوى. فالمفاهيم ليست مجرد ألفاظ يمكن الوصول إلى دلالاتها عن طريق المعاجم بل هي أفكار مجسدة للواقع وموصولة بالتاريخ بما فيه من تدافع وصراع واختلاف وتوافق، وهذا ما يجعل المفهوم يأخذ معاني متعددة حسب القراءة المقدمة، بما يعني أن الحديث عن ليبرالية واحدة هو وقوع في دائرة التعميم، وهذا بطبيعة الحال يولد خلطًا والتباسًا في المفهوم نفسه. ومع ذلك يمكن القول: إن الليبرالية مصطلح مشتق من الكلمة اللاتينية (liber) حيث يؤكد الدكتور عبدالله العروي أن الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهي، والباعث والهدف والأصل والنتيجة في حياة الإنسان. ولذلك فالليبرالية لم تتخذ مصطلحًا أو مفهومًا واحدًا يمكن البناء عليه وإن كان هنالك من يرجع أصل المصطلح إلى كلمة (liberalism) في الإنجليزية وكلمة (liberalisme) في الفرنسية وهي تعني التحررية ويعود اشتقاقها إلى (liberty) في الإنجليزية، و(liberte) في الفرنسية ومعناها الحرية. فعندما نقف على بعض تعريفات الليبرالية في بيئتها الغربية تظهر لنا مجموعة من التعريفات المختلفة: فقد عرفها الفيلسوف (جان جاك روسو) بأنها الحرية الحقة في تطبيق القوانين. وعرفها المفكر الفرنسي (لاشلييه) بالانفلات المطلق. وعند الفيلسوف (هوبز) بغياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء. وعند المفكر (هاليفي) بأنها الاستقلالية عن العلل الخارجية. وقد عرفتها موسوعة لالاند: بانعدام الموانع والعوائق. وقد دخلت الليبرالية دائرة التعريفات العربية فيعرفها الأديب منير البعلبكي بأنها فلسفة سياسية ظهرت في أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر ثم اتخذت أشكالًا مختلفة وأزمنة وأمكنة مختلفة. وترى الموسوعة العربية العالمية أن الليبرالية فلسفة اقتصادية وسياسية تؤكد على الحريات والمساواة وإتاحة الفرص.. وفي المعجم الفلسفي: الليبرالية نظرية سياسية ترقى إلى مستوى الأيديولوجيا. وتعرفها الموسوعة الميسرة: بأنها مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة.. ويعرفها المؤرخ الدكتور سيار الجميل: بأنها مذهب فكري وسياسي ينادي بالحرية المطلقة في الحقل الاقتصادي نه والسياسي والاجتماعي. والليبرالية فكرة ليست من نتاج مفكر واحد، ولا وليدة بيئة ثقافية أو ظروف زمنية واحدة، فقد تعددت تعريفاتها بعد أن استقرت فلسفة فكرية غربية تنزع إلى المادية والفردية، والتحرر من كل قيد أو ثابت وإن كان كل ما تقدم من تعريفات يغلب عليها الطابع المعجمي ويجد المتأمل فيها خصائص ومشتركات لا يكاد ينفك عنها مفهوم من هذه المفاهيم فهي بحسب هذه المفاهيم مذهب إنساني مادي ينطلق من الإنسان ويتوجه إليه وينتهي به. وليست الليبرالية مجرد طريقة تفكير فحسب، بل هي منظومة فكرية كلية تتناول الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، كما تشمل المناهج الفكرية والعلمية. فالليبرالية تقوم على الحياد التام تجاه كل العقائد والملل والمذاهب لكل فرد أن يعتنق ما يشاء وله الاستقلال التام في ذلك لا يجبر على فكر أبدًا ولو كان حقًا وهو ما عبر عنه هاليفي بالحرية الميتافيزيقية، فهو بهذا المعنى يحقق العلمانية في الفكر الليبرالي. ولذا لا نجد دولة تتصف بالليبرالية إلا وهي علمانية المذهب في الفكر والتطبيق. ومن خلال هذه المفاهيم، يمكن تلمس الأسس والمكونات التي يقوم عليها الفكر الليبرالي والتي عبر عنها جون جراي بالفردية والحرية والعقلانية. فالليبرالية الغربية من حيث النشأة لم تنطلق من فكرة متكاملة، ولم تشكل نظرية متماسكة إلا بعد سنوات طويلة من نشأتها، كغيرها من النظريات والحركات الاجتماعية والمذاهب الفكرية والفلسفية. إلا أن بعض الباحثين في الحركات الاجتماعية يؤرخون بالقرن السادس عشر بداية أسس المبدأ التحرري، وفي القرن السابع عشر قيادة الفكر الفلسفي العقل الإنساني إلى التحرر من سلطة الكنيسة، إذ أن التجربة الدينية للمسيحية الأوروبية في القرون الوسطى كانت تجربة مريرة للتدين المسيحي. وفي القرن الثامن عشر كانت بداية تداول مصطلح الليبرالية وصولًا إلى القرن التاسع عشر الذي يعتبر لدى معظم الباحثين الاجتماعيين التاريخ الذي انطلقت فيه الليبرالية. يقول جون جراي: إذا كان لليبرالية تاريخ محدد، فهو القرن التاسع عشر، حين اكتسبت الليبرالية مدلولها المعاصر فمصطلح ليبرالي لم يستخدم منهجيًا قبل ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وقيل أن حروب الأديان الطاحنة والطويلة التي شهدها تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، والتي قادت الى التسامح، كانت لحظة ميلاد الليبرالية، وإن كان هذا الربط المنهجي لا يستقيم مع المذاهب الفكرية، إذ أنه يعود إلى حقيقة التسامح وليس الى الليبرالية. وقد حاول بعض المفكرين تحديد بداياتها من خلال مجالاتها: ففي المجال السياسي كان الحزب الإسباني أول من تبنى كلمة الليبرالية عام 1810م. وفي عام 1886م نشأ في بريطانيا حزب ليبرالي. أما في المجال الفكري فيرجع إلى ديمقراطي أثناء القرن الخامس قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وإلى حركة الإصلاح البروتستانتية، وإن كان هنالك من المؤرخين الاجتماعيين من ينظر لليبرالية بأنها مجرد ردود أفعال لتسلط الكنيسة والإقطاع في العصور الوسطى بأوروبا. وقد أسهمت في تكوين فلسفة المذهب الليبرالي ثلاثة مصادر رئيسية هي: كتابات جون لوك وأفكار فلاسفة ما يسمى بالاستنارة والمدرسة النفعية بالإضافة إلى تأثير كل من الثورتين الأمريكية [1776م] والفرنسية [1789م]. ولكن لا يغيب الأثر الكبير في نشأة الليبرالية الذي أحدثه كل من المذهب البروتستانتي وحركة الإصلاح الديني فقد ساندا الليبرالية بأفكارهما الجديدة، وأضعفا سلطة الكنيسة وتبنيا النزعة الفردية والاقتصادية. وكذلك الحركة الأدبية ذات النزعة الإنسانية التي قامت ببعث الآداب الإغريقية اليونانية بما تحمله من معاني التحرر من قيود الكنيسة الدينية وقد دفعت هذه الحركة الفكر الأوروبي نحو الليبرالية من ناحية التحرر من العقائد الدينية، والظهور على الفكر القديم، وتعميق مبادئ الفردية والحرية، وتعظيم دور الإنسان الفرد، والتركيز على محوريته. ولم تظهر الليبرالية بوصفها مذهبًا سياسيًا قبل القرن التاسع عشر، ولكنها قامت بوصفها أيدلوجية قامت على أفكار ونظريات تنامت قبل ذلك ب300 عام، حيث نشأت الأفكار الليبرالية مع انهيار النظام الإقطاعي في أوروبا، والذي حل محله المجتمع الرأسمالي أو مجتمع السوق وبتعبير آخر اقتصاد السوق الحر بحسب المفكر الأمريكي فكوياما. وتتعدد مجالات الليبرالية إلى ثلاث مجالات: السياسية، والاقتصادية، والفكرية. فالليبرالية السياسية نظام سياسي يقوم على ثلاثة أسس العلمانية والديمقراطية والحرية الفردية وعلى التعددية والفصل بين السلطات. أما الليبرالية الاقتصادية فهي نظام اقتصادي يؤمن بأن الاقتصاد تحكمه قوانين ثابتة تقوم على العرض والطلب، وتعتبر الرأسمالية هي المكون الرئيسي لليبرالية الاقتصادية، وأصبح مصطلح الليبرالية الاقتصادية واقعًا ملموسًا في الفكر الاقتصادي، وتتمثل الليبرالية الاقتصادية في الملكية الخاصة، وحرية التجارة والتملك. والليبرالية الفكرية تعني استقلالية الفرد بشكل كامل في تحديد خياراته الفكرية والعقائدية. وترتكز الليبرالية على منظومة من القيم والمبادئ الأساسية لليبرالية وتتمثل في: الفردانية: وتعني العناية بالفرد واحتياجاته وخياراته ورغباته، وذلك عن طريق تقوية مركز الفرد في المجتمع، والفردانية مذهب فكري - سياسي ينطلق من اعتبار الفرد أساسًا في تفسير التاريخ. الحرية: تعد الحرية القيمة العليا المشتركة في الفكر الليبرالي. العقلانية: وتعني استقلال العقل بإدراك الحقائق، وذلك عن طريق الحس والتجربة. المساواة: وهي أن يتمتع الأفراد بحقوق متساوية لإنسانيتهم بقطع النظر عن العرق، أو الجنس أو الدين، أو الخلفية الاجتماعية. التسامح: وهو مبدأ اجتماعي إنساني يقوم على احترام حريات الآخرين وقبول الآخر. الإنسانية: تعني أن الليبرالية في جميع مجالاتها إنسانية الطابع والهدف. ومن الناحية الفكرية، تعني حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير.
مشاركة :