غزة - عادة ما تثير الأحداث العالمية الكبرى سيلا من المعلومات المضللة، لكن حجم وسرعة انتشارها عبر الإنترنت في أعقاب الهجوم المباغت الذي شنته حماس على إسرائيل السبت، لم يسبق له مثيل حتى أن وسائل إعلام وحسابات رسمية لمسؤولين انخرطت في معركة الأخبار الكاذبة. ومع احتدام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على الأرض، دخل الطرفان في معارك موازية على مواقع التواصل الاجتماعي عبر نشر فيديوهات ومعلومات مضللة اختلطت فيها الحقائق بالتزييف. وبثت قناة الجزيرة مقطع فيديو حصلت عليه من كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة حماس، تضمن ما قالت أنه عملية إطلاق سراح امرأة إسرائيلية وطفليها، بشكل طوعي، لكن ما لبثت وسائل إعلام إسرائيلية أن نددت بالفيديو قائلة أنه مزيف ولا يعكس الحقيقة، إذ أن المرأة التي ظهرت في الفيديو كان قد تم إطلاق سراحها بعد عبورها السياج مع غزة السبت الماضي، بعد أن اقتادها مقاتلوا حماس عبر فجوة في السياج وعندما وصلوا إلى غزة أشاروا لها بالمغادرة وعادوا من دونها. وقالت قناة "i24 " الإسرائيلية أن الفيديو يخالف الدقة والأمانة في نقل الخبر، متهمة قناة الجزيرة "بالتعاون مع حركة حماس على السيطرة على الأضرار اللاحقة بصورة حماس مع انتشار فظائع القتل الجماعي للمدنيين في إسرائيل والذي استقطب دعم دول العالم، بحسب مسؤولين إسرائيليين". ورغم أن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي قد ندد بالحادثة وبالدعاية المضللة لحماس والجزيرة، إلا أنه هو الأخر وقع في نفس الفخ بعدما نشر مقطع فيديو مضلل وقال إنه لقصف نفذته مقاتلات اسرائيليات على قطاع غزة ثم تبين لاحقا أنه من إدلب السورية. وكان أدرعي قد نشر مقطعا مركبا من ثلاث مقاطع على منصة "إكس" وقال إنه لعمليات قصف غزة، وأرفقه بآية قرآنية، قبل أن يتضح أن أحد المقاطع مأخوذ من سوريا. وتناولت حسابات لناشطين ووسائل إعلام الفيديو الذي نشره أدرعي، وقالت إن المقطع الأول منه يعود لقصف شنه النظام السوري سابقا على مدينة أريحا في إدلب السورية. وتواجه منصات التواصل الاجتماعي صعوبة بمواجهة انتشار حسابات زائفة تنتحل شخصية صحافيين إلى مشاهد من ألعاب فيديو حربية تُنشر على أنها حقيقية. وما يزيد الطين بلة أن هذه المنصات تبدو وكأنها تتخلى عن جهود إبراز المعلومات الجيدة، مع تراجع زوار أهم المواقع الإخبارية انطلاقا من تطبيقاتها. ومع اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، عادت معضلة المحتويات المضللة على وسائل التواصل الاجتماعي إلى الواجهة مع كم هائل من الصور والحسابات المزيفة حول هذا النزاع. ويقول الخبراء إن هذا النزاع يلقي الضوء على تضاؤل قدرة المنصات البارزة مثل فيسبوك وإكس على مكافحة المعلومات الكاذبة في مناخ يُهيمن عليه تسريح الموظفين وخفض التكاليف. وما يفاقم المشكلة خصوصا في منصة إكس المملوكة لإيلون ماسك، وجود عدد كبير من الإجراءات المثيرة للجدل مثل إعادة تفعيل حسابات تروج لمؤامرات زائفة ووضع برنامج لمشاركة عائدات الإعلانات مع صانعي المحتوى، ويقول خبراء إنه يحفّز البحث عن التفاعل بدلا من توخي الدقة. ويخشى الخبراء أن تكون هذه الإجراءات زادت من خطر إحداث المعلومات المضللة أضرارا كمفاقمة الكراهية والعنف خصوصا في خضم سيناريو أزمة سريعة التطور مثل الذي يتكشف في إسرائيل وغزة. ويقول أندي كارفين من مختبر أبحاث الطب الشرعي الرقمي التابع للمجلس الأطلسي "تواجه منصات التواصل الاجتماعي صعوبة في مواكبة التدفق المستمر للمعلومات المضللة والتحريض على العنف". ويضيف "هذه نزعة متنامية منذ بعض الوقت، وقد ازدادت سوءا مع تأثير عمليات تسريح موظفين طاولت فرق الأمن والسلامة، ما يعيق قدرتها على التعامل مع هذه الفوضى". ويتابع "في حالة إكس، حطمت التغييرات التي طرأت على المنصة تماما ما كان في السابق أحد أعظم نقاط قوتها: مراقبة الأخبار العاجلة ومساعدة المستخدمين على تمييز الحقيقة عن الكذب". ويرى باحثون في مجال المعلومات المضللة إن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يشاهدون كمية كبيرة من صور القتال الزائفة، ومقاطع فيديو قديمة من سوريا أعيد نشرها لتبدو وكأنها مصورة في غزة، ولقطات من ألعاب فيديو يتم تمريرها على أنها مشاهد من هجوم حركة حماس. وانتشرت مثلا صورة على الإنترنت يُزعم أنها تظهر جنودا إسرائيليين أسرتهم حماس، لكن صحافيي خدمة تقصّي صحة الأخبار في وكالة الأنباء الفرنسية وجدوا أن الصورة التقطت عام 2022 خلال تدريب عسكري في غزة. كما كشفوا منشورات عدة على منصات إكس وفيسبوك وتيك توك روجت لوثيقة مزيفة للبيت الأبيض بشأن تخصيص 8 مليارات دولار مساعدة عسكرية لإسرائيل. ويقول المحلل في مجموعة الأزمات الدولية أليساندرو أكورسي "الكم الهائل من مقاطع الفيديو والصور القديمة المزورة والمزيفة لهجمات يجعل من الصعب فهم ما يجري" في إسرائيل وغزة. ويعرب أكورسي عن "قلقه البالغ" من أن المعلومات المضللة، وخصوصا الصور المزيفة للرهائن بما في ذلك الأطفال، يمكن أن تؤجج أعمال العنف. ويوضح الرئيس التنفيذي لمركز مكافحة الكراهية الرقمية عمران أحمد "في الأزمات مثل الفظائع الإرهابية والحروب والكوارث الطبيعية، يميل الناس إلى اللجوء إلى منصات التواصل الاجتماعي للحصول على معلومات يمكن الوصول إليها بسرعة". ويضيف "(لكن) سيل المخادعين الذين ينشرون الأكاذيب والكراهية بحثا عن التفاعل والمتابعين، إضافة إلى الخوارزميات التي تنشر هذا المحتوى المتطرف والمثير للقلق، هي السبب في أن وسائل التواصل الاجتماعي هي في الواقع مكان سيء للحصول على معلومات موثوقة". وما يزيد الأمر سوءا هو أن منصات التواصل الاجتماعي تبدو وكأنها تتخلى عن جهودها الرامية إلى إبراز المعلومات الجيدة. وتراجع زوار أهم المواقع الإخبارية انطلاقا من وسائل التواصل الاجتماعي خلال العام الماضي، وفق بيانات نقلتها وسائل إعلام أميركية عن شركة الأبحاث "سيميلارويب". في الأسبوع الماضي، أزالت منصة إكس العناوين عن المقالات الإخبارية التي يشاركها المستخدمون، وصارت الروابط تظهر كصور فقط، وهي خطوة يقول الخبراء إنها قد تؤدي إلى تقليل عدد زوار المواقع الإخبارية. وتعرض إيلون ماسك نفسه لانتقادات حادة بعدما شجّع متابعيه على إكس البالغ عددهم نحو 160 مليونا على متابعة حسابين "جيدين" للحصول على أخبار حول الحرب، في حين أنهما معروفان بنشر معلومات مضللة. وحذف ماسك لاحقا ذلك المنشور، لكن بعدما حصد ملايين المشاهدات. ويقول أندي كارفين "رغم أنه لا يزال هناك عدد لا يحصى من الصحافيين والباحثين الموهوبين الذين يواصلون استخدام إكس لمساعدة الجمهور على فهم أفضل لما يحدث، فإن نسبة المفيد من الضار أصبحت هزيلة". وأضاف أن "فائدتها كأداة موثوقة للبحث وإعداد التقارير صارت معطوبة وقد لا تتعافى أبدا". وأعلنت الهيئة الاتحادية الألمانية لمكافحة التمييز (فادا) الأربعاء أنها انسحبت من إكس بسبب "الزيادة الهائلة" في خطاب الكراهية. وكتبت "فادا" على منصة إكس أن التعليقات البغيضة والمعلومات الكاذبة "ازدادت خصوصا" منذ استحواذ إيلون ماسك على شركة تويتر العام الماضي. وأضافت "بسبب الزيادة الهائلة في الخطابات المعادية للمتحولين جنسيا والعنصرية والمعادية للسامية وغيرها، في رأينا، لم تعد منصة إكس بيئة مقبولة" لهيئة عامة. وأشارت إلى أن أكثر من 160 حاخاما وفنانا وقائدا في منظمات يهودية استنكروا الخطاب المعادي للسامية المتزايد على المنصة الاجتماعية. من جهته، حضّ وزير الشؤون الرقمية فولكر فيسينغ الأربعاء إيلون ماسك وكل مشغلي المنصات الاجتماعية على "حذف الحسابات التي تمجد الإرهاب وتدعو إلى تدمير إسرائيل وتحرض على العنف ضد اليهود".
مشاركة :