كانت الشمس قاربت على توسط السماء ظهيرة يوم الجمعة الموافق الخامس من رمضان عام 403 هجرية، عندما تدفق جموع المصريين إلى ذلك المسجد المهيب، الذي طال انتظارهم للانتهاء من بنائه طوال أربعة وعشرين عاماً، وما كادت الجموع تتجاوز بوابات سور القاهرة القديم، حتى أدركت الجموع لماذا استغرق بناء هذا الصرح الإسلامي المهيب، كل هذا الوقت، وأن ما يشاهدونه هو إعجاز معماري بكل المقاييس.. لم يكن التصميم الراقي أو الفن المعماري الفريد، هو فقط ما جعل هذه التحفة الإسلامية العتيقة، تولد تلك الحالة من الانبهار، وإنما تفرد مسجد الحاكم بأمر الله، عن غيره من المساجد التي بنيت في القاهرة على مر العصور الإسلامية، وفي مقدمتها الجامع الأزهر، الذي ظل لعقود يجمع المصريين في صلواتهم ومناسباتهم الدينية المختلفة. يرجع تاريخ بناء جامع الحاكم بأمر الله، إلى أواخر القرن التاسع الميلادي، وتقول العديد من الروايات ، إن الخليفة الفاطمي الخامس العزيز بالله فكر في إنشائه، بعدما ضاق الجامع الأزهر بالمصلين، ففكر الحاكم بأمر الله في إنشاء جامع كبير ومهيب، لا يستوعب فحسب تلك الجموع الغفيرة، وإنما يكون منارة فقهية جديدة، يتم فيها تدريس أمور الدين والفقه إلى جانب الجامع الأزهر. لم يمهل القدر العزيز بالله، فلم يمض سوى عامٍ واحد على تاريخ البدء في بناء الجامع، حتى مات ، وتوقفت أعمال البناء لفترة، حتى جاء الخليفة الجديد ابنه الحاكم بأمر الله، ليأمر باستكمال البناء، تكريماً لذكرى والده، ليكتسب الجامع اسمه من الخليفة الجديد. وتروي العديد من كتب سير الفاطميين في مصر أن العمل في بناء الجامع استمر قرابة أربعة عشر عاما، شهدت خلالها مصر العديد من الأحداث التي أثرت في مسيرة البناء، قبل الانتهاء من أعمال البناء في العام 393 هجرية، لكن تأجل الافتتاح لحين الانتهاء من بناء المئذنة، التي تعد في حد ذاتها تحفة معمارية. يتميز جامع الحاكم بأمر الله بدقة وروعة التصميم، فيما تعد مساحته الشاسعة وصحنه الهائل مبعثاً على الإعجاب والتقدير، إذ لا يملك الزائر سوى الدهشة في مواجهة المئذنتين المهيبتين في الواجهة الشمالية الغربية، وهما تطلان شامختين في عنان السماء، تحوطهما قاعدتان عظيمتان هرميتا الشكل، تتربع فوقهما المئذنة المثمنة الأضلاع. ويتواجد مدخل الجامع الأثري في منتصف هذه الواجهة، وتحديداً بين المئذنتين، وهو أول مدخل بارز يبُنى لجامع، يعلوه قبو اسطواني في نهايته باب معقود بعقد أفقي من الحجر، وعن يمين ويسار المدخل توجد بقايا نقوش بديعة، تكون طبانا في المدخل ويؤدي المدخل إلى صحن الجامع الذي تحيط به الأواوين التي تتوزع على اتجاهات المسجد الأربعة، لتضفي حاله من الهيبة، إلى جانب الشعور بعمق المنظور، أكبرها هو إيوان القبلة، ويقع بالاتجاه الجنوبي الغربي، وهو يتكون من خمسة أروقة. وتضم الإيوانات الموجودة في الشمال الشرقي والجنوب الغربي ثلاثة أروقة، بكل رواق عقود وكل تلك العقود محمولة على أكتاف تشبه أكتاف الجامع الطولوني، وكانت جميع العقود مغطاة بسقف مسطح من الخشب، وجميع الأكتاف والأعمدة من طوب داكن يشبه الطوب المستخدم في بناء جامع ابن طولون، ويربط الأكتاف بعضها بعض أربطة خشبية مكسوة بألواح مزخرفة بنقوش محفورة في الخشب، كما كانت تعلو الأعمدة فرشات من الخشب المسطح مكونة من قطعتين أو ثلاث قطع. وتوجد في نهايتي حائط القبلة قبتان محمولتان على مثمن، كما توجد قبة ثالثة فوق المحراب وقد هدمت القبة الشرقية بسبب إقامة السور الذي بناه بدر الجمالي، ملاصقا للجدار الشرقي للجامع، كما سدت جميع النوافذ في هذا الجدار أيضاً لنفس السبب، وقد كان يوجد عن يمين المدخل الحالي بابان آخران، وقد سدت جميعها، كما كان يوجد بابان في الجانب الشرقي وباب في منتصف الجانب الغربي، وباب للخطيب بجوار المنبر، فيصير مجموع الأبواب تسعة، أما الشبابيك في هذا الجامع، فموضوعة على محور، وقد سدت المئذنتان شباكاً من كل جهة، فيصبح عدد الشبابيك 16 شباكاً، موزعة على اتجاهات الجامع الأربعة. توالت صروف الزمان على المسجد، فاعتدى عليه بدر الجمالي، عندما سد منافذ الجدار الشرقي ببنائه السور، ما أحدث تشوهاً في شكل المسجد، غير أن أشد ما أصابه، كان زلزالاً قوياً ضرب مصر في العام 702 هجرية، وتسبب في تلف شديد للجامع، حيث تهدمت الكثير من العقود والأكتاف، وسقط السقف كما هوت قمتا المئذنتين، وتهدمت جميع أواوينه مع مرور الزمن، ما عدا بعض عقود في الإيوانين القبلي والشرقي، وهو ما دفع ركن الدين بيبرس إلى أن يجري عليه عدة إصلاحات، تلتها بعض التحسينات التي أدخلت على الجامع، على مر العصور منها ما قام به الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، الذي قام بتجديد المسجد، فكسا أرضية الجامع بالرخام في عهد الخلافة العباسية. وفى أوائل القرن الثالث عشر، قام نقيب الأشراف السيد عمر مكرم بتجديد بعض أجزاء المسجد، فكسا القبلة بالرخام، كما أضاف بجوارها منبرًا ومحراباً وكانت هذه آخر مدة الاهتمام بالجامع الحاكم، لكن مع دخول الحملة الفرنسية إلى مصر، أصبح الجامع مقرّاً رئيسياً لجنود الحملة، فتحولت مئذنتاه إلى برجي مراقبة، وبعد خروج الحملة أقام فيه مجموعة من الشوام، جعلوه مكاناً لصناعة الزجاج ونسج الحرير، وقد ظلت الحال هكذا إلى أواخر القرن الثامن عشر، حيث تحول المكان إلى مخزن ومتحف إسلامي، وأطلق عليه اسم دار الآثار العربية. في أواخر القرن الماضي، تقدمت طائفة البهرة بطلب إلى الحكومة المصرية لتطوير وترميم وإعادة تهيئة الجامع بجهودهم الذاتية، وتم قبول الطلب وبدأت أعمال التطوير والترميم للمسجد، لكن معظم هذه الأعمال لم تكن تتناسب مع الطابع المعماري الإسلامي العتيق، الذي يمتاز به الجامع، وقد ظهر ذلك جلياً داخل أروقة الجامع، لكن يكفي أنه عاد إلى الحياة مرة أخرى.
مشاركة :