فرض الرواية الرسمية للحكومة على الرأي العام ما زال له تأثيره، وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية في أمريكا وأوروبا متماسكة في قصتها وفق مبادئها المتوارثة في دعم إسرائيل على حساب كل القيم الإنسانية التي تدّعيها، إنها تستمر في تضليل الرأي العام. عندما يخرج رئيس الدولة ويعلن بمسحة من الحزن والصدمة أنه شاهد أطفالاً إسرائيليين برؤوس مقطوعة، فإن لروايته مصداقية، وبخاصة إذا لم تتدخل كبريات شبكات الإعلام التقليدي وتشكك في الحكاية، ورغم اعتذار الجهات المسؤولة لاحقًا ونفيها مشاهدة الرئيس أو أي مسؤول أطفالاً مقطوعي الرؤوس، فإن الرسالة الأولى نفذت إلى عقول ومشاعر المشاهدين، ولذلك فلم يكن مستغرباً إقدام شخص في السبعين من عمره على قتل طفل فلسطيني بوحشية في صبيحة اليوم التالي. وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية تنقل لمشاهديها ضحايا هجمات إسرائيل الوحشية على أنهم موتى من الجانب الفلسطيني، بينما يعتبرونهم قتلى في الجانب الإسرائيلي من أجل استمرار خداع الرأي العام، وتقديم إسرائيل على أنها الحمل الوديع في حظيرة من «الوحوش» البشرية. إنه صراع للسيطرة على الرأي العام، فتلك هي السلطة الحقيقية، وليست سلطة المادة أو السلاح. بالهيمنة على الأفكار من خلال التدليس تستطيع أن توفر المادة وأن تشتري الأسلحة، وأن تسيطر على الجبهة الداخلية، وتبقيها متماسكة لصالح دعم المجهود العسكري الإسرائيلي الذي يقتل إلى جانب المدنيين الفلسطينيين كل القيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية الغربية. قبل دخول الحرب العالمية الأولى، لم يكن سوى عدد قليل جدًا من الأميركيين يعرفون الكثير عن ألمانيا وتاريخها وأهدافها، ولما دقت طبول الحرب، كان هناك الكثير من الرسائل التي تم ضخها في أدمغة الأمريكيين من خلال وسائل الإعلام، سعياً إلى تشكيل إرادة وطنية لحمل السلاح ضد المتوحشين الألمان. تم تداول قصص العدوان الألماني كما لو كان الألمان يريدون السيطرة على العالم. الحقيقة أن التاريخ لم يثبت ذلك على الإطلاق؛ لقد كانت الإمبراطورية البريطانية هي التي فرضت سيطرتها على العالم لمدة 300 عام، وأعلنت بكل فخر أن «الشمس لا تغرب أبدًا عن الإمبراطورية البريطانية». القوى العظمى والغرب الصناعي قادر على إعمال التغيير في المجتمعات الأخرى، لكن تغيير سياساته صعب ومعقد جدًا بسبب المجالس البرلمانية والأجندات الحزبية، ولذلك فإنه يكون متخلفًا عن الحراك المجتمعي، ولا يتوقف كثيرًا عند براعة منافسيه في استخدام أدوات التغيير الأكثر ديناميكية في التواصل، والتي اخترعتها شركاته. لذلك هناك فجوة بين الرواية التي تحكيها الجهات المسؤولة وتتخادم معها وسائل الإعلام التقليدية في النقل والتحليل، وبين ما تروجه شبكات التواصل الاجتماعي التي يستقي منها الشباب معلوماتهم، وتحظى بمصداقية إلى حد ما على حساب وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية التي لا يتذكرون عنها سوى كذبها في عدد كبير من الأحداث العالمية التي دفع الأمريكيون ثمنًا باهظًا لها. بعض التقارير القديمة نوعًا ما تؤكد انخفاض الثقة في الأخبار التقليدية في أمريكا إلى 43 %، وأن الفئة العمرية 18-24 عامًا، يعتمد 68 % منهم على وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار، ويقيني أن هذه النسبة ازدادت كثيرًا منذ عام 2017م. لذلك لا غرابة أن تكون صدمة صناع القرار والنخب الأمريكية كبيرة وهم يفاجئون برواية مغايرة تُروج بين الشباب عن مذابح إسرائيل في غزة، وبخاصة بين طلاب الجامعات الأمريكية. في الوقت الذي نصرخ في الطرف الآخر من العالم أننا لم نر تحيزًا سافرًا كهذا من السياسيين والإعلاميين والتجار والنخب الغربية لصالح العدوان العسكري الإسرائيلي على المدنيين في غزة، يصرخ شون هنيتي أحد صقور المحافظين الجدد في قناة فوكس نيوز الإخبارية بأنه لم ير في حياته عداء كالذي يراه اليوم للسامية في أوساط الشباب الجامعي بسبب حرب إسرائيل على غزة. وكما كانت حركة الحقوق المدنية تتطور في أمريكا ضد حرب فيتنام يبدو أن هناك حركة تتشكل ضد إسرائيل بين أبناء وأحفاد المسيحيين الإنجيليين، إنهم عازفون عن الاستمرار على خطى آبائهم. القوة الحقيقية كما يقول غرامشي هي في السيطرة على الأفكار، ولزمن طويل سيطر السياسيون الغربيون على الأفكار داخل بلدانهم وخارجها، وحتى الرأي والرأي الآخر كان ضمن هامش نسبي، وفي حدود المصالح الغربية؛ أتذكر كيف أمرت كونداليزا رايس مستشار الأمن القومي للرئيس بوش الابن وسائل الإعلام الأمريكية بعدم نشر أي معلومة عن اجتياح أفغانستان أواخر عام 2001م إلا ما يصل إليهم من وزارة الدفاع، واستمر العمل بتلك التوجيهات لبضعة أيام حتى تمردت قناة CNN على التعليمات بسبب منافسة قناة الجزيرة التي كانت تنقل كل شيء. اليوم يصعب على الإدارة الأمريكية التحكم في شبكات التواصل الاجتماعي، فالفظائع والجرائم التي ترتكب ضد أكثر من مليوني مدني أعزل في قطاع غزة تصل إلى الرأي العام، وتتشكل جبهة معارضة للطرف الرسمي في الرواية.
مشاركة :