«ثقافة الصحراء» للبازعي نموذجاً

  • 3/19/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

هل كانت أزمة تلقي الحداثة الشعرية في المملكة العربية السعودية في ثمانينات القرن الماضي ناتجة عن غياب النص؟، وتضاؤله أمام سيطرة الرؤية التي يمكن تسميتها رؤية نقدية وعظية؟، أو كانت ناتجة عن النظرية النقدية بكل حمولاتها التي تكرس الجهد في سبيل وضع الرؤى الشعرية الحديثة أمام النص الشعري؟، وهي رؤى يختلط فيها العام بالخاص عند بعض النقاد؟ وهل يكون من الموضوعي أن أستحضر هذا وأنا أطالع الساحة النقدية المحلية عام 1986م؟، وأقلب النظر في صفحات كتابين رافقا كتاب: «ثقافة الصحراء» من حيث الزمن، والتوجه النقدي التحديثي، وحضور النقاد الثلاثة على الساحة آنذاك، وهما كتابا: «الكتابة خارج الأقواس- دراسات في الشعر والقصة» للدكتور سعيد السريحي، وكتاب «تشريح النص» للدكتور عبدالله الغذامي؟ ثم هل يكون من المقنع أن أستحضر بعد كل هذا مقولة الدكتور عبدالسلام المسدي الدالة جدا، حينما قال: «للنقد على الأدب من الخطر أحيانا ما له من الفضل والمزية: يأخذ بعضه من بعض فيتراكم حتى يحتجب القول الأدبي وراء القول النقدي» ( المسدي ،13) وهل لي بعد ذلك أن أقرر أن إقدام الدكتور سعد البازعي على جمع مقالته النقدية في كتاب واحد هو: «ثقافة الصحراء – دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصر « وهي المقالات التي كتبها قريبا من الفترة التي ظهر فيها الكتابان السابقان؛ كان إحساسا منه بأن منجزه النقدي كان يسد فجوة واضحة بين نص مختف خلف رؤية نقدية، أو نظرية حديثة، تضع همها فتح المسالك لحداثة لا يمكن تحققها كما سيرد عند السريحي! أو التبشير بنظرية تضع همها صناعة قارئ يكتب هو الآخر نصه الجديد! كما كان هم عبدالله الغذامي؟ هل كان صاحب كتاب: «استقبال الآخر – الغرب في النقد العربي الحديث» يستشعر مذ ذاك - وإن لم يشر صراحة - قلقا علميا موضوعيا من تطبيق الرؤية أو النظرية التي يتقاطع فيها البعدان الموضوعي والشخصي على نص حداثي غاب بفعل الحماس للنقد على حساب النص؟ لتتحقق لدينا خطورة النقد على النص كما استشرفها المسدي من قبل! إنني أفترض بدءا أن هذا الإحساس لدى الدكتور البازعي هو الذي سيره إلى اجتراح لفظة الصحراء لعنوان كتابه، وهي اللفظة التي اختلف معه فيها بعض النقاد؛ ناظرين إلى الرؤية الجغرافية التي تحاصر الإبداع المتنوع في دائرة الوطن ضمن رؤية واحدة! بيد أني أرى - وإن حاول البازعي أن يلبس عبدالله نور قلق المصطلح - فإن الذين نظروا إلى هذا المصطلح من خلال الجغرافيا كان عليهم أن ينظروا إليه من خلال التاريخ أيضا، وهو التاريخ الأدبي للسياق الذي يراه «ياكبسون» ذاكرة مهمة للنص وخطيرة عليه أيضا! وهو النص الإبداعي العربي الذي يأتي النص الحديث امتدادا له عبر مقومات لغوية تحترم النظام النحوي والصرفي، ومن خلال احترام للفضاء الفني الذي يمد الآليات الفنية للنص الحديث ببعض التراكيب اللغوية والصور الفنية الجديدة، ومن خلال التأكيد من خلال النص الحديث على أن الهموم والآمال الكبرى ليست متباينة أو متضادة، فلم يكن، ولن يكون مقدرا على الشاعر الحداثي أن يواجه الذات الجمعية كما يرى الدكتور السريحي من خلال «الكتابة خارج الأقواس»، بل هو المبدع الذي يجترح اللغة الجديدة، والصورة العميقة اللافتة التي تكتب ذاتها من خلال ما تريده هي لا ما يفرضه الناقد عليها من وجوب مواجهة ذاتها الجمعية. وهو مفهوم يمكن أن تحرره الرؤية البلاغية المجازية القارة، حيث إطلاق الجزء وإرادة الكل. ولئن كان البازعي لم يعلن صراحة أو تلميحا إلى الوساطة هنا، لكنني أحسب أن الكتاب كان يأخذ في حسبانه تقريب النص الشعري الحداثي من المتلقي، وأحسب أن أولى تجليات هذه الوساطة كانت عقد هذه العلاقة بين النص الشعري الحديث، والسياق التاريخي العربي، بثرائه الإبداعي، ومكانه ومكانته الحضارية، وإلى رموزه وأساطيره، وإذا كانت التهم التي وجهت إلى النص الحديث تهما تتعلق بخطورته على اللغة، وعلى الذوق العربي، وارتباطه بالمعطى الغربي مثلا، فقد جاء العنوان هنا ليشير إلى أن هذا الشعر لا يتنكر للصحراء، بمفهومها العام «الهوية» الذي يحيل إلى إنسانها وقضاياه، وآماله وآلامه، بل إلى هذا السياق الحضاري الضخم الذي يشكل إرثا حضاريا وفنيا أفاد منه النص الحديث. إلى جانب تأثير هذا السياق في تشكله الشفهي الذي يؤثر على المتلقي والمبدع في الآن ذاته، وهو اتجاه يرى قدمه البازعي من خلال وعي عميق بدور السياق، الذي يصبح التحديث من خلال وعيه، وهضمه، وتجاوزه خطوة أولى لازبة في سبيل التحديث، وليس في ذلك محاولة تعسفية لإرضاء الذات الجمعية، بقدر ما هو شعور موضوعي بتأثير هذا السياق على النص والمبدع والمتلقي. لقد جاء حضور النص في كتاب: «ثقافة الصحراء» حضورا يوازن بين جماليات الشكل، وحضور الفكرة، وتقويمها أيضا من خلال حركة النص الحديث شعرا أو قصة، لم تستهلك الرؤية أو النظرية النص، أو تغيبه! بل كانتا حاضرتين في ذهن البازعي، أضاءهما من خلال النص، وأضفى عليها، والمطالع لجهد البازعي في كتابه يمكن أن يستذكر نظرية الاتصال عند «رومان ياكسبون» وخاصة فيما يتعلق بالرسالة وسياقها وشفرتها، حيث اتجه البازعي إلى النص الحديث من خلال التأكيد على سياق المتلقي في جانبها «العربي والشعبي»، بيد أنه وهو يؤكد ذلك في غير موضع من الكتاب، فإنه كان يعود إلى الشفرة الفنية الخاصة، مؤكدا على جمالياتها واتساقها مع المتلقي في آلامه وآماله وقضاياه وتطلعاته، وبالتالي فلم يجعل من «المبدع والمتلقي» طرفي نقيض أمام هذه الشفرة، كما فعل السريحي في كتابه «الكتابة خارج الأقواس» الذي يقرر هذه الأزمة في صورة حدية جازمة، إذ يقول: «اسمحوا لي أيها السادة أن أتوقف في البدء عند حدود هذه العلاقة المتوترة بين الفنان والجماعة التي ينتمي إليها، أو التي تحيط به، تلك العلاقة التي لا ينتهي توترها إلا عند تمكن الجماعة من توظيف الفنان وإذابته في تيار من التيارات، وما يقتضيه ذلك من توافق وظيفي بينه وبين الجماعة، أو عند تسليم هذه الجماعة بجموح الفنان وإدراكها لتميزه، وإن لم تستطع تمثل كل ما يأتي به، وإذا كانت النتيجة الأولى تمثل نهاية قاتلة للفنان، يخسر فيها من فنه بقدر ما يتواطأ مع الجماعة على إنجازه، فإن النتيجة الثانية هي التي انتهت إليها علاقة كبار الفنانين مع مجتماعاتهم وإن يكن مجيئها يأتي متأخرا في الغالب» (السريحي، 37) «إن الرؤية السريحية تضع الرؤية الخاصة بالمبدع منذ البدء في مواجهة حاسمة لا مناص منها مع الجماعة، وأي تناغم بينهما سيصير بالفن إلى خسارة قاتلة! وهو المأزق الذي لا يمكن معه وسط هذه «الأيدولوجية» السريحية أن نرى مبدعا إلا يأتي محتزما ومشحونا بكل حمولات الاختلاف التي يجب أن يضعها في ذهنه قبل كتابة النص الأدبي، إن أراد أن يكتب نصا حديثا! والسريحي يهرب إلى التفرد من خلال المعنى، وهو ما يعيده بشكل أو بآخر إلى أن يكون صوتا متسقا مع «أيدولوجية» ما! حتى وإن تلبس بكل تحديثات اللغة، فشرط الخصوصية هنا هو الافتراق عن صوت الجماعة، يقول: «وإذا كانت خصوصية الفنان هي أولى علامات انفصاله عن الجماعة فإنها هي التي تستعلي به إلى مرتبة الفن» ((السريحي، 38) والافتراق هنا عن صوت الجماعة، وتبنيه صوتا آخر هو تكريس للمعنى وسطوته، وهو أمر لم يكن ليتسق وعلامات النظرية الحديثة التي كانت بادئة على المشهد النقدي السعودي آنذاك؛ حين كانت تتعاطى بشكل أو بآخر مع الحركة النقدية العربية عبر «الشكلانية والبنيوية»، وأحسب أن ما دفع بالدكتور السريحي إلى التأكيد على جانب المعنى، عبر ما يسميه «بالرؤية»، هو ذلك التوتر الذي رآه سمة لازمة بين المبدع والجماعة، وتحذيره من أن يذوب المبدع في الجماعة بتواطئه معها، والتي تشكل نهاية للفنان يخسر فيها بقدر ما يتواطأ مع الجماعة، التي يصبح الارتهان لها ذوبانا للفنان، إذ عليه – كما يقول «الانطلاق من رؤية متعالية تحيط بالرؤى القبلية، ثم تتجاوزها، وتتمرد عليها، فخصوصية رؤية الفنان هي أولى علامات انفصاله عن الجماعة، وهي التي تستعلي به إلى مرتبة الفن (السريحي ، 38) وأحسب أنه ليس أضر على الفنان من تلك الاشتراطات التي تفصل له - قبل أن يكتب - مقاسا لسؤال الإبداع المهم كيف يكتب! وأن تفرض عليه التعالي على الذات الجمعية بغض النظر عما تريده وتؤمن به هي «الذات الجمعية»، فكيف لو كانت مؤمنة بالحرية وحقوق الإنسان، هل يجب على المبدع أن يكون صوته ديكتاتوريا ملغيا للتصور القبلي، حتى وإن كانت الرؤية تحمل لغة جديدة، وتطلق الدوال في فضاء التأويلات من خلال تعبير متجاوز مستعمل أيضا. بل إن هذه الرؤية السريحية لن تستطيع إيجاد شاعر يمثلها بكل اشتراطاتها، وإذا كانت قد أحضرت الثبيتي متجاوزا فنيا في مقطع من قصيدة (ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء) فإنها ستجد الشاعر ذاته بعد قصيدتين فقط يمثل الجماعة البدوية خير تمثيل؛ حين يصدح بجمالية «صفحة من أوراق بدوي» (الثبيتي، 203). وإذا كانت الرؤية السريحية تتجه نحو المعنى وتجعله موازيا للغة الجديدة فإن الغذامي كان يغادر النص إلى نص آخر يقدمه الناقد من خلال تشريحيته الخاصة التي تقوم على ما أسماه : «الانفعال العقلي» الذي يقول عنه إنه: «يستند إلى القارئ كمنتج للنص وصانع لدلالاته» (الغذامي، 58)، وراح يقيم نظريته على أطلال النصوص الشعرية التي لا تحضر إلا بمقدار ما يسمح لها القارئ التشريحي ذلك.. وللحديث بقية.

مشاركة :