أظن وبعض الظن خير أن حالة من التأمل لجزء من حراكنا النقدي في المملكة العربية السعودية هو الذي أسهم في صناعة الأسئلة، وأنتج هذه الورقة التي تحاول أن تقول شيئًا في ركب الجهود التي قيلت والتي ستقال في موضوع حضور النص في النقد الحديث، وهي أسئلة يمكن إيجازها في سؤال عن «النص» وحضوره في بعض الجهود النقدية المحلية التي تعاطت معه، وخاصة النص التحديثي؛ فهل كانت أزمة تلقي الحداثة الشعرية في المملكة العربية السعودية في ثمانينيات القرن الماضي الميلادية ناتجة عن غياب «النص»، وتضاؤله أمام سيطرة المنهج الجديد، ومحاولة تفصيل ثوب هذا «النص» المسكين وفق مطالب هذا النقد؟ حتى وإن كان الناقد في اعتسافه للنص كمن يحاول إدخال الرقبة من مدخل يد الثوب! أم كان التنظير الوعظي الحداثي هو الذي غيب «النص» بفرضه رؤى إرشادية، لا تقل حرفيتها وجمودها عن رؤى نقاد الأخلاق؟ وإن كانت تلبس لبوسًا حداثيًا جديدًا! ظانة أنها في منأى عن الوعظ والتوجيه، مستعينة في الحالتين السابقتين بكل حمولات «الذات» التي تنهج خلف رؤيتها الخاصة الجديدة، أو تستحضر «النظرية النقدية الحديثة» وربما كان هذا الاستحضار بقليل من تفاصيل النظرية «العلمية» وكثير من حمولات «الذات» المتنوعة! أحسب أن الإجابة تأخذني -وأنا أطالع الساحة النقدية المحلية عام 1986م- إلى استحضار كتابين نقديين رافقا كتاب: «ثقافة الصحراء» لسعد البازعي من حيث الزمن، والتوجه النقدي التحديثي، وحضور النقاد على الساحة آنذاك، وهما كتابا: «الكتابة خارج الأقواس- دراسات في الشعر والقصة» لسعيد السريحي، وكتاب «تشريح النص» لعبدالله الغذامي؛ رغبة في الاقتراب من الموضوعية التي تتوخاها الورقة ولا تزعمها؛ مستحضرًا قبل كل هذا وبعده مقولة عبدالسلام المسدي الدالةَ جدًا، حينما قال: «للنقد على الأدب من الخطر أحيانًا ما له من الفضل والمزية: يأخذ بعضه من بعض فيتراكم حتى يحتجب القول الأدبي وراء القول النقدي» ومتأملا ما نقله صلاح فضل عن الشاعر والناقد الأسباني «داماسوألونسو» الذي يتمثل الشعر عصفورًا وديعًا، إن شددت عليه قبضتك الدراسية أزهقت روحه، وحولته إلى جثة لا يغنيك تشريحها في معرفة سر رشاقتها، وهي ترف من حولك» ذاهبًا إلى الظن أن من أسباب إقدام سعد البازعي على جمع مقالاته النقدية في كتاب واحد هو: «ثقافة الصحراء - دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصر» وهي المقالات التي كتبها قريبًا من الفترة التي ظهر فيها الكتابان السابقان؛ كان إحساسًا موضوعيًا منه بأن منجزه النقدي سيسد فجوة واضحة بين «نص» مختف خلف رؤى نقدية صادمة، أو نظريات حديثة غير مؤسسة، تضع همها فتح المسالك لنص خاص لا يمكن تماهيه معهما وإن قفز فوق الأقواس، أو تلبس لبوس التفكيك الذي أدخل إلى الساحة النقدية السعودية بعد تلبيسه لباسًا خاصًا، يناسب المكان والزمان، فكان اسمه التشريح لا التفكيك ولا التقويض! فهل كان البازعي صاحب كتاب: «استقبال الآخر - الغرب في النقد العربي الحديث» يستشعر مذ ذاك قلقًا علميًا موضوعيًا من تطبيق الرؤية، أو النظرية التي يتقاطع فيها البعدان الموضوعي والشخصي على نصوص متميزة حديثة غاب فيها النص، بفعل الحماس للنقد الحديث أيضًا؟ إنني افترض بدءًا أن هذا الأرق العلمي لدى البازعي هو الذي سيره إلى توظيف لفظة «الصحراء» في عنوان كتابه، وهي اللفظة التي اختلف معه فيها بعض النقاد؛ ناظرين إلى الرؤية الجغرافية التي تحاصر الإبداع الجديد في دائرة منه، مع امتداد «الوطن» وتنوع بيئاته وتضاريسه! بيد أني أرى -وإن حاول البازعي أن يلبس عبدالله نور قلق المصطلح -أن الذين نظروا إلى هذا المصطلح من خلال ضيق الجغرافيا المكانية كان عليهم أن ينظروا إليه من خلال رحابة التاريخ البياني للمكان أيضًا، وهو النص الإبداعي العربي الذي يأتي النص الحديث امتدادًا له عبر مقومات لغوية، تحترم النظام النحوي والصرفي، ومن خلال احترام للفضاء الفني الذي يمد الآليات الفنية للنص الحديث ببعض التراكيب اللغوية والصور الفنية الجديدة، ومن خلال تأكيد النص الحديث على أن الهموم والآمال الكبرى ليست متباينة أو متضادة، فلم يكن، ولن يكون مقدرًا على الشاعر الحداثي أن يواجه الذات الجمعية كما دعا سعيد السريحي من خلال «الكتابة خارج الأقواس»، بل هو المبدع الذي يجترح اللغة الجديدة، والصورة العميقة اللافتة التي تكتب ذاتها من خلال ما تريده هي، لا من خلال ما يفرضه الناقد عليها من وجوب مواجهة ذاتها الجمعية. ولئن كان د. سعد البازعي لم يعلن صراحة أو تلميحًا إلى الوساطة التي أعنيها هنا في كتابه، بيد أني أحسب أن الكتاب كان يأخذ في حسبانه تقريب النص الشعري الحداثي من المتلقي، وأن أولى تجليات هذه الوساطة كانت عبر عقد هذه العلاقة بين النص الشعري الحديث، والسياق التاريخي العربي، بثرائه الإبداعي، ومكانه ومكانته الحضارية، وإلى رموزه وأساطيره، وإذا كانت التهم التي وجهت إلى النص الحديث تهمًا تتعلق بخطورته على اللغة، وعلى الذوق العربي، وارتباطه بالمعطى الغربي مثلاً، فقد جاء العنوان هنا ليشير إلى أن هذا الشعر لا يتنكر للصحراء، بمفهومها العام، وسياقها الذي شكل «الهوية» الذي يحيل إلى إِنسانها وقضاياه، وآماله وآلامه، وهو السياق الحضاري الضخم الذي يشكل إرثًا حضاريًا، وفنيًا أفاد منه النص الحديث، وهو اتجاه قدمه البازعي من خلال وعي عميق بدور السياق، الذي يصبح التحديث من خلال وعيه، وهضمه، وتجاوزه خطوة أولى لازبة، وليس في ذلك محاولة تعسفية لإرضاء «الذات الجمعية»، بقدر ما هو شعور موضوعي بتأثير هذا السياق على النص، والمبدع والمتلقي... لقد جاء حضور النص في كتاب: «ثقافة الصحراء» حضورًا يوازن بين جماليات الشكل، وحضور الفكرة وتقويمها أيضًا، من خلال حركة النص الحديث شعرًا أو قصة، فلم تستهلك الرؤية أو النظرية النقدية «النص» أو تغيبه لصالحها! بل كان النص والرؤية النقدية حاضرين في نقد البازعي، أضاءهما من خلال النص وأضفي عليها... والمطالع لجهد البازعي في كتابه يمكن أن يستذكر نظرية الاتصال عند «رومان ياكسبون» وخاصة فيما يتعلق بالرسالة وسياقها وشفرتها، حيث اتجه البازعي إلى النص الحديث من خلال التأكيد على سياق المتلقي في جانبه «العربي والشعبي»، بيد أنه وهو يؤكد ذلك في غير موضع من الكتاب، فإنه كان يعود إلى الشفرة الفنية الخاصة، مؤكدًا على جمالياتها، واتساقها مع المتلقي في آلامه وآماله وقضاياه وتطلعاته، وبالتالي فلم يجعل من «المبدع» و»المتلقي» طرفي نقيض أمام هذه الشفرة، كما فعل السريحي في كتابه (الكتابة خارج الأقواس) الذي يقرر هذه الأزمة في صورة حدية جازمة، إذ يقول: «اسمحوا لي أيها السادة أن أتوقف في البدء عند حدود هذه العلاقة المتوترة بين الفنان والجماعة التي ينتمي إليها، أو التي تحيط به، تلك العلاقة التي لا ينتهي توترها إلا عند تمكن الجماعة من توظيف الفنان وإذابته في تيار من التيارات، وما يقتضيه ذلك من توافق وظيفي بينه وبين الجماعة، أو عند تسليم هذه الجماعة بجموح الفنان وإدراكها لتميزه، وإن لم تستطع تمثل كل ما يأتي به، وإذا كانت النتيجة الأولى تمثل نهاية قاتلة للفنان، يخسر فيها من فنه بقدر ما يتواطأ مع الجماعة على إنجازه، فإن النتيجة الثانية هي التي انتهت إليها علاقة كبار الفنانين مع مجتمعاتهم وإن يكن مجيئها يأتي متأخرًا في الغالب» (السريحي، 37) «إن الرؤيا السريحية تضع الرؤيا الخاصة بالمبدع منذ البدء في مواجهة حاسمة لا مناص منها مع الجماعة، وأي تناغم بينهما سيصير بالفن إلى خسارة قاتلة!
مشاركة :