وهو المأزق الذي لا يمكن معه وسط هذه «الأيدولوجية» السريحية أن نرى مبدعًا إلا ويأتي محتزمًا ومشحونًا بكل حمولات الاختلاف التي يجب أن يضعها في ذهنه قبل كتابة النص الأدبي، إن أراد أن يكتب نصًا حديثًا! ود.السريحي يهرب إلى التفرد من خلال الرؤيا التي تحيل إلى المعنى الذي يهرب منه إلى مواطن الجمال اللغوي، وهو ما يعيده بشكل أو بآخر إلى أن يكون صوتًا متسقًا مع «أيدولوجية» ما! حتى وإن تلبس بكل تحديثات اللغة، فشرط الخصوصية هنا هو الافتراق عن صوت الجماعة، يقول: «وإذا كانت خصوصية الفنان هي أولى علامات انفصاله عن الجماعة فإنها هي التي تستعلي به إلى مرتبة الفن)»، مع أن الافتراق هنا عن صوت الجماعة، وتبنيه صوتَا آخر هو تكريس للمعنى وسطوته، وهو أمر لم يكن ليتسق وعلامات النظرية الحديثة التي كانت بادئة على المشهد النقدي السعودي آنذاك معادية للمعني ومغاضة من قدره؛ حين كانت تتعاطى بشكل أو بآخر مع الحركة النقدية العربية والغربية، عبر بعض النظريات»الشكلانية، والأسلوبية، والبنيوية»، وأحسب أن ما دفع بالسريحي إلى التأكيد على جانب «المعنى»، عبر ما يسميه «بالرؤيا»، هو ذلك التوتر الذي رآه سمة لازمة بين المبدع والجماعة، وتحذيره المبدع من أن يذوب في الجماعة بتواطئه معها، حتى لا يذوب الفنان في جماعته، أو يخسر إبداعه الحديث، إِذ عليه - كما يقول السريحي - «الانطلاق من رؤيا متعالية تحيط بالرؤى القبلية، ثم تتجاوزها، وتتمرد عليها، فخصوصية رؤيا الفنان هي أولى علامات انفصاله عن الجماعة، وهي التي تستعلي به إلى مرتبة الفن، وأحسب أنه ليس أضر على الفنان من تلك الاشتراطات التي تُفصل له مقاسًا ليكتب من خلاله! فأي مبدع متميز سيقبل هذه الاشتراطات، وهو شرط قبلي حاد جازم يفرض منذ البدء على المبدع شرط التعالي على الذات الجمعية بغض النظر عما تريده وتؤمن به هي «الذات الجمعية»، فكيف لو كانت هذه الذات مؤمنة بالحق والخير والجمال، وداعية إلى الحرية، وحق الإِنسان في كل ذلك، هل يجب على المبدع أن يكون صوته «ديكتاتوريًا» ملغيًا للتصور القبلي، حتى وإن كانت الرؤيا تحمل لغة جديدة، وتطلق الدوال في فضاء التأويلات من خلال تعبير متجاوز... بل إن هذه الرؤية السريحية لن تستطيع إيجاد شاعر يمثلها بكل اشتراطاتها، وإذا كانت قد أحضرت نص محمد الثبيتي تمثيلاً للشاعر والنص المتجاوزين، في جزء من قصيدة (ليلة الحلم وتفاصيل العنقاء) فإنها ستجد الشاعر ذاته بعد قصيدتين فقط يمثل «الذات الجمعية» خير تمثيل، وهي ذات لها حضورها الطاغي في التراث العربي، حيث تشكل الانتماء القبلي فقط، الذي يرفض التغير، ويصر على استنبات مقومات النسق القديم، ورفض جماليات المدنية الحديثة، أو الوقوف أمامها بكل مرجعيات البدوي القديم، ممثلاً الجماعة البدوية خير تمثيل؛ حين يصدح بجماليته الباذخة «صفحة من أوراق بدوي»: ماذا تقولين لن أهديك راياتي ولن أمد على كفيك واحاتي أغرك الحلم في عيني مشتعل لن تعبريه فهذا بعض آيـاتي إن كنت أبحرت في عينيك منتجعا وجه الربيع فما ألقيت مرساتي هذا بعيري على الأبواب منتصب لم تعش عينيه أضواء المسافات وتلك في هاجس الصحراء أغنيتي تهدهد العشق في مرعى شويهاتي وإذا كانت الرؤيا السريحية تتجه نحو المعنى، وتصر عليه من خلال طلب المعاني الجديدة الرافضة للمعاني القديمة، وجعلها موازية للغة الجديدة! فإن الغذامي كان يغادر النص إلى نص آخر يقدمه الناقد من خلال تشريحيته الخاصة التي تقوم على ما أسماه: «الانفعال العقلي» الذي يقول عنه إنه: «يستند إلى القارئ كمنتج للنص، وصانع لدلالاته»، وهو في أثناء ذلك يؤكد على أهمية حيادية المنهج، الذي هو رديف «الآلة» في العلم المعاصر، بيد أن النص لا يحضر عنده إلا بمقدار ما يسمح لها القارئ التشريحي. إن من المهم الإشارة بدءًا إلى أن مواجهة القصيدة الحديثة للتراث لا تعني رفضًا أو تجاوزًا عند البازعي، بل: «تواجهه، تحاوره، تسير إلى جانبه ولا تدخل ثيابه، لا تنعم بجاهزية الموروث ووفرة أشكاله وراحة الأخذ منه، وإنما تقابله وهي تشعر أن ثمة مسافة تفصلها عنه، وتغير من طبيعة علاقتها به». لقد وعى البازعي أن قضية الفن قضية لغوية في الأساس، قد تحمل معها رؤية جديدة، فراح إلى النص «الموجود» ولم ينتظر النص الغائب كما انتظر السريحي، أو النص المقيد بفرضيات النظرية كما انتقاه الغذامي! ولذا جاءت الرؤية النقدية محاورة له، متلمسة الفردية التي تتناغم مع الرؤية الجمعية عبر لغة جديدة، لا تتصادم مع الجماعة، ولا ترتهن لها أيضًا! فعالم الفن عالم خاص يوافق، ويخالف كيف شاء متى شاء! والبازعي في أثناء ذلك يحيل إلى أهمية السياق الثقافي المتراكم الذي يظهر، ولا يستطيع أحد إخفاءه، فلم تقل النظرية الحديثة بتجاهله، حيث راح النقد البازعي يوظفه من خلال رؤى المبدعين لا فرضيات الناقد الناقد أو اشتغالاته الخاصة، حيث يشير مثلاً إلى شكوى» الحميدين والصيخان من اللغة المكررة، ورؤيتهم الجديدة للحياة، وهي الرؤية التي تشكل انزياحًا في بعض الأحيان عن الذات الجمعية، لكنها لا تشكل تصادمًا معها، ولا تفرض هذا التصادم أو الاختلاف مسبقًا؛ ولذا فقد راح يستحضر من النصوص حضور الصحراء بغموضها ورهبتها ومطرها الشحيح، وانعكاس ذلك على «الذات الشعرية» التي تحاول أن تصنع عالمها المحتمل، من خلال سياقها الخاص أيضًا عبر استحضار الرموز والأساطير في أبعادها العربية السامية، وفي أبعادها المحلية حيث يحضر: «الشنفرى- عمر بن الخطاب- أبو ذر الغفاري- المتنبي- كافور- صلاح الدين»، كما تحضر «عين هداج في تيماء، وفضة التي تتعلم الرسم»، رابطًا كل ذلك بالواقع العربي والإسلامي المعاصر الذي يمثل الشاعر أحيانًا صوته الراغب في الانطلاق والتحرر، وهو هنا لا يلغي الرؤيا الجديدة التي تلامس بصدق ووعي هموم المرحلة، وآمال المستقبل، حيث تأتي قصيدة الصيخان: «هواجس في طقس الوطن» مناسبة لتأكيد حداثة التجربة على المستويين الفني والدلالي: قد جئت معتذرًا ما في فمي خبرُ رجلاي أتعبها الترحالُ والسفرُ ملت يداي تباريخ الهوى ووعت عيناي قاتلها ماخانها بصر حيث يؤكد البازعي على الوعي السياسي الذي يتجه نحو الخصوصية الصحراوية الموحشة الراغبة في المطر، بكل دلالاته الكثيرة، وحركة العصافير التي تفتح آفاق الإشكال الذي يوحد الذات والجماعة في ذات الظروف التي تنتهي بإشكالات مجتمعية، وهي نصوص تشير إلى أن هناك وعيًا خاصًا لدى الجيل الجديد من الشعراء والقاصين السعوديين كما يرى البازعي، وإن كان وعيًا بخصائص البيئة الجغرافية، فإنه يشير إلى وعي أعمق وأشمل، أسهم البازعي في تلمس جزءًا من جماليات حضوره. إن وعي «الثبيتي وغيداء المنفي ومحمد جبر الحربي» مثلاً بأزمة العلاقة بين الشاعر والمدينة هو مأزق «ذاتي وجمعي» يحاوره البازعي، ويكشف عن خطوطه المائزة والجامعة، وهو وعي موجود سابقًا عند بعض شعراء الحداثة في العالم العربي، لكنه وعي خاص حينما يعرضه البازعي من خلال علاقة الصحراء به، وهو كذلك وعي خاص من خلال اللغة الانزياحية التي يتابع تنوعاتها المختلفة عند الشعراء، وهو في أثناء ذلك يقدم رؤية لا تحجز النص وتحاصره، بل تفتح نافذة على تجلياته المتنوعة التي يمكن أن تكون في النص الحديث قابلة للتعددية بحكم لغته القابلة. ولا يعني كل ذلك أن الشاعر تحول إلى أداة في يد الجماعة، فاختلاف الرؤية حاضر هنا؛ حين استحضار «الصعلكة» الجاهلية عبر رموزها، وتوظيفهم في رسم موقف مختلف عن الجماعة، وإن كان منتميًا إلى الهوية الصحراوية التي تنفي تهمة «اللا انتماء» التي يواجهها شعراء الحداثة الشباب كما يقول البازعي، ولذا كان اتجاهه إلى تأكيد الارتباط بالهوية والانفصال عنها منطلقًا من خلال النصوص التي تؤكد الهوية على نحو ما حينًا، وتقدم رؤاها الخاصة عن العلاقة مع الوطن حينًا آخر، كما رآه في قصائد: (هوازن فاتحة الكعب) و(تغريبة القوافل والمطر) و(الخبت) (ويسألونك عن الساعة) لعلي الدميني، وهي رؤى نقدية قدمها البازعي على أنها -كما يقول- أفكار وأحاسيس قريبة في حقيقتها إلى الأسئلة، وإن لم تنته كلها بعلامات استفهام أو إن شئتم «فهي مجموعة أجوبة تحمل روح التساؤل لا أقول هذا تحذلقًا وتواضعًا زائفًا، وإنما لأنني أدرك أن تلقي النصوص الإبداعية الجيدة أيًا كان زمانها أو مكانها بني على التسليم أولاً بأن النص المتلقي ليس مجموعة من التقارير الإخبارية التي يمكن أن تقال في قراءتها فاصلة الخطاب، على العكس من ذلك فالنص الجيد يقتضى مقاربته، وليس قتله بالتحديد الصارم». إن هذه اللغة النقدية الحوارية لا تجدها مثلاً أمام رؤية السريحي والغذامي في «الكتابة خارج الأقواس» و»تشريح النص»، حيث يتجه الخطاب النقدي نحو الوثوقية فيما يطرحه من تنظير يتعلق بالرؤيا والتشريح التي سبق الحديث عن جزء منها. وحين يؤكد البازعي على حضور تعلق النص وصاحبه بالوطن المتعالى، ويذكر هذا الوطن بابنه البدوي القادم كما عند الصيخان، فإنه يربط بين عشق «ستيفنز» لوطنه أمريكا وعشق محمد الدميني، وهو لا يغادر النص، ولا يفارقه إلا بمقدار ما يتملى ويكشف أبعاد جماليات هذا العشق التي رسمها العاشق، وهو يؤكد بالفعل النقدي هنا أن حضور الناقد حضور موضوعي يصف ويتملى ويختلف أحيانًا، كما اختلف مثلاً مع الشاعر أحمد الصالح «مسافر» في ارتباكه في توظيف الشنفرى، وإعطائه بعدًا إسلاميًا، إلى جانب انتقاله من إشكالية الهوى إلى مأساة الوطن. إن الرؤية النقدية البازعية تجعل للمتلقى دوره في استقبال النص الإبداعي والنقدي، لكنه ليس الدور التفكيكي الذي يقيم من القارئ مبدعًا آخر، بل المتلقي الذي ينطلق ضمن إطار من الحرية الكاملة في التقبل والرفض والإضافة؛ وهو ما يجعل من النص كيانًا يمكن أن يكون مثارًا للتنوع والاختلاف، وهو ما يمكن أن تمارسه هذه الورقة مع بعض تأويلات البازعي النقدية، التي ترى -مثلاً- أن قصيدة «التضاريس» تحمل بعثًا مرتهنًا بماء كاهن الحي، حيث يقول: «وحين يجيء ذلك الماء فإن وطنًا جديدًا سيتبرعم، وطنًا هو مهجة الصبح، وهو القهوة التي تنصب فوق الرؤوس» إِذ أحسب أن الشاعر كان في خطابه الشعري هنا هاجيًا «للذات الجمعية» التي تنتظر الخوارق والمعجزات، كما أني أعتقد أن مقارنة قصيدة محمد الثبيتي « هوازن فاتحة القلب» بقصيدة على الدميني «الخبت» أمر يحتاج إعادة نظر؛ فالبازعي يقول: «إن قصيدة «الخبت» لا تقترب من احتمالات الانبعاث بنفس القوة والوضوح الذي نجده في «هوازن فاتحة القلب» مثلاً، لكنها ترسم أفقًا احتماليًا لذلك الانبعاث يستمد ضوءه من الرؤية المتفردة والإصرار على الالتحام بالوطن»، وأحسب أن المتأمل سيجد فرقًا كبيرًا، حيث تقدم التجربتان الشعريتان وفق إطار فني فردي لافت لموضوعين مختلفين، وإذا كان البازعي يقول عن قصيدة «هوازن فاتحة القلب» ليس من الصعب أن نتبين من عنوان «هوازن فاتحة القلب» أنه يحمل علاقة بين ثلاثة أقطاب: هوازن العشيرة / الوطن، والقلب وهو الإِنسان / الفرد وبينهما فاتحة «فإنني أعتقد أن الدلالة هنا، ومن خلال تتبع صور القصيدة وتفاصيلها تشير إلى أن القصيدة ليس لها مساس واضح بالوطن، ولم تكن متجهة نحوه، بل كانت تتجه نحو ابنة الشاعر «هوازن» التي أهدى لها الديوان، وهي التي يريد أن يرى طفولتها وكتاباتها ومستقبلها مشرقًا ومختلفًا، مهيئًا لها سلمًا لتنطلق إلى آفاق رحبة من السلام والحب... إنها هوازن التي تستثير أباها حبًا ورحمة، وهي امتداده الذي يؤمله: تفوحين من حمى شبابي قصيدة أشاطرها لوني وشكل أناملي أطارحها الأسماء والأحرف التي تصوغ على وجهي تفاصيل قاتلي وألقي على أفراحها رونق الضحى وأسقي محياها صبابات ساحلي إنها «هوازن» التي يرى فيها الشاعر امتداده، ووجهه وآلامه وأفراحه، فيطارحها الفرح، ويقاسمها الألم، لأنها - كما يراها- مستقبله الجديد، وتاريخه القديم، ولذا يمكن أن تكون محاور القصيدة مقسمة باعتبار زمني إلى ثلاثة محاور رئيسة هي: أ.هوازن الحاضر. ب.هوازن الماضي. جـ.هوازن المستقبل. حيث تأتي هوازن في الجزء الأول مثيرة للقصيد، شبيهة بالشاعر، يطارحها الآلام والأمل، ويرى وجهها باهيًا رائعًا «لله هذا الوجه كيف يجيء متوجًا بالطلع». وتأتي في المقطع الثاني مذكرة له بمعاناته مع اللغة التي بدت له -عبر قراءته في نتاج شعرائها، وآلام المظلومين عبر التاريخ-مليئة بالألم والغناء، بالفرح والترح، حتى أتته وتملكها، وأصبح يتصرف فيها كيف شاء... وتأتي هوازن في المقطع الثالث مستقبلاً تتنازعه مشاعر الرجاء والخوف، فهو يريدها أن تكون طفلة تفضح الصمت، وتقر أعناق النخيل، حرة أبية، ضاجة بالحزم، ومانحة كريمة لمن يستحقون، إنه يحلم لها بالزمان الرحب والمدن الطليقة، ويأمل من الشجر البدائي أن يبتكر أغصانًا جديدة للطيور الجديدة، هذا الشجر الذي تجمد وتصلب، ويصبح المستقبل مشيرًا بصورة أو بأخرى لواقع مظلم، واقع المدن المتجمدة والأشجار المتجهمة... «أحلم بالزمان الرحب والمدن الطليقة» «يا أيها الشجر البدائي ابتكر للطير أغصانًا وللأطفال فاكهة» «يا أيها الشجر الذي طال احتقان جذوره بالقيظ واحترقت بلابله على الأسلاك». إن المدن الطليقة والشجر المحتقن يشيران إلى مدن مسجونة، وأشجار ظالمة لا يمكن أن تمنح الأغصان للطيور القادمة، وهو واقع لا يرجوه «لهوازن» وجيلها، واقع يأمل أن يكون مختلفًا، لكن كل ذلك لا يبدو أنه سيتحقق، وإن كان يتمناه «لهوازن»: هل في الأرض متسع لهذا القلب هل في الليل أجنحة لهذا الحلم فإنه لن يتحقق في المجتمعات القبلية المحافظة الساهرة ضد الأنثى: ساهرة دماء البدو حتى تقرع الأجراس حتى تقرع الأجراس حتى تقرع الأجراس إن عيون البدو الساهرة لن تدع النوم يمارس أحلامه المبتغاة، فالعيون البدوية حارسة لقيمها المتعنتة إلى أن تقرع الأجراس؛ إعلامًا بانتهاء العالم وقيام قيامته، وبالتالي يصبح هذا الواقع مشيرًا إلى حالة من الديمومة التي لا مناص منها، حيث يعود الحلم لا ليمنحه واقعًا بهيًا، بل ليكرس واقعه الحالي المؤلم: عرى مقلتي نوم بهي فأسدلت عليها شغاف الحلم، أوقدت مشكاة فماذا ترى رأى في الحلم؟ للأسف لم يرَ سوى نساء مقهورات يردن الحب، ويعشقن الحياة، بيد أنهن يتحولن، وتتحول أحلامهن في الحب إلى أن يقمن بدورهن المحدد لهن في هذه الحياة حيث تكون مهمتهن إنجاب الرجال فقط، وليس «الأولاد» كما ترى اللغة إنصافًا للقسمة العادلة بين الذكور والإناث، بل رجال فقط؛ اتساقًا مع ذكورية هذه المجتمعات القامعة للأنثى: رأيت نساء يحتسين الهوى العذري من منبع الشمس ويغرسن في الطين رجالاً ثم يرى القرى المأهولة بالجوع الممتد من قريته إلى الأرض، ويرى صباحات ملطخة بالحروب والدماء، وتتوقف ريحه التي طافت الأرض عائدة إلى مكة مبتدأ الرحلة ونهايتها، ليبدأ رحلة جديدة، تكشف سوء عري البلاد، وتنتظر يوما سيتحقق «لهوازن» فتحًا جديدًا، عبر يمينه الندية: كلما أوغلت في صدر المدى طفقت يمناي تهمي بالندى أنثر الطلع على عري الثرى وأحيل الرمل فجرا أمردا(1) إنه الخطاب الشعري الذي يستحضر الابنة في مواجهة الوطن، حيث تغدو الآمال والآلام مرهونة بالمستقبل الذي يرجوه الشاعر لابنته في وطنه، وهو خطاب غارق في العاطفة والصدق والخوف من مستقبل لا يملك الشاعر تجاهه سوى الأمل، والرجاء وبعث الرسائل الفنية المكثفة التي تستطلع مستقبلاً مختلفاً، مع شعور ممض بفراق لن يطول بين الشاعر وابنته، وهو ما حصل بعد ذلك»؟(2) والبازعي في قراءاته يمثل قارئًا متواضعًا، لا يدعي فتحًا، أو يمثل ضجيجًا، فعمله كما يرى يندرج ضمن جهود أخرى، وهو جهد يجمع بين الجانبين الفني المعنى بتكتيك القصيدة وسياقي يراعي التفاعل مع الحياة الاجتماعية والسياسية، منحازًا نحو التأويل أحيانًا، هذا التأويل الذي يسنده حس شعري مرهف، لا يدعى أن ما يمتلكه منه كافيًا لاستشفاف الكثير من النصوص، وهو لا يفتأ يكرر أن جهده جهد متواضع يحاول أن يتلمس بعض الخصائص الشكلية والموضوعية التي قد يعيننا إدراكها على تذوق الشعر الحديث والتفاعل معه، من أجل أن يصل الشعر الحديث إلى المتلقي، فمع ما حققه الشعر في الخليج مثلاً من منجزات، من خلال تواصله مع الشعر في العالم العربي، أو خارجه، فإنه يبقى متطلعًا إلى توصيل رؤيته إلى القريبين منه، مستحضرًا الإشكالية أمام القصيدة الحديثة الكتابية بالدرجة الأولى، التي تواجه جمهورًا من المتلقين واقعين تحت مظلة التلقي الشعري التقليدي بخطابته الشفوية ومباشرته الفنية.(البازعي، 148). إن النقد هنا يستحضر التجارب الذاتية ضمن إطارتها الإشكالية التي يمثلها المتلقي بسياقه وثقافته والإبداع بتفرده، محاولاً أن يوجد منطقة وسطًا بين تضخم قلة من المبدعين، وعدم اكتراثهم بالمتلقي العادي، وشعراء كثر يحاولون تقريب المسافة بطرائق مختلفة. ومع ذلك فإن البازعي لم يتحول إلى مركزية القارئ؛ ليعظ المبدع كيف يكتب الشعر الحديث وفق رؤية الناقد الخاصة، كما فعل السريحي! كما أنه لم يتحول إلى استحضار قارئ نموذجي من طراز خاص، يكتب نصًا جديدًا، كما فعل الغذامي، وهو يقارب بعض النصوص التي قاربها البازعي، وهو قارئ لن نجده إلا من خلال الغذامي ذاته، الذي تبنى التفكيكية، ومنحها اسمًا ورسمًا ومنهجًا خاصًا. ** ** المراجع: o سعد البازعي، ثقافة الصحراء - دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصر، الأولى، الرياض، مطبعة العبيكان، 1412هـ -1991م. o سعيد مصلح السريحي، الكتابة خارج الأقواس - دراسات في الشعر والقصة، الأولى، جازان، نادي جازان الأدبي، 1407هـ -1986م. o د.صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، الأولى، بيروت، دار الآداب، 1995م. o عبدالسلام المسدي، قراءات مع الشابي والمتنبي والجاحظ وابن خلدون، الرابعة، الكويت، دار سعاد الصباح، 1993م. o عبدالله الغذامي، تشريح النص، الثانية، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2006م. o مجلة جامعة الملك عبدالعزيز - الآداب والعلوم الإِنسانية، المجلد 22، 2014م 1435هـ. o محمد الثبيتي، الأعمال الكاملة، الأولى، حائل، نادي حائل الأدبي، ومؤسسة الانتشار العربيى، 2009م. ** ** - د. عبدالله أحمد حامد
مشاركة :