بالرغم من أن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرًا بسحب الجزء الأساسي من قواته في سوريا فاجأ العالم، وبالرغم من أنه لم يتضمن جدولاً زمنيًا للانسحاب ولا عدد القوات وحجم المعدات التي سيتم سحبها، إلاّ أن القرار جاء في توقيت انطوى على دلالة هامة، أولاً كونه جاء بالتزامن مع الذكرى السادسة لاندلاع الثورة السورية، وثانيًا لأنه جاء أيضًا بالتزامن مع عقد الأمم المتحدة جولة جديدة من مباحثات السلام السورية - السورية بهدف وضع حدّ للحرب في سوريا.ويرى العديد من المراقبين أن هناك عدة أسباب دفعت بوتين إلى اتخاذ قراره بالانسحاب من سوريا، يأتي في مقدمتها -رغم نفي السيناتور الروسي أندريه كليموف- العبء الاقتصادي والتكلفة الباهظة لهذه الحرب التي تكلف الخزينة مبالغ كبيرة في وقت يواجه فيه الاقتصاد الروسي أزمة حقيقية بسبب الانخفاض الحاد في أسعار النفط. كما أنه لم يعد يخفى على أحد ما يبدو الآن بأنه بوادر خلافات بين الأسد وموسكو بعد التوافق بين روسيا وأمريكا حول مباحثات جنيف، وهو ما كشفت عنه صحيفة «الشرق الأوسط» في عددها الصادر أمس (الخميس) بالقول: إن بوتين عرض على الأسد اقتراحات تتعلق بتلك المفاوضات، وأن الأخير كرر التمسك بإجراء الانتخابات في موعدها المقرر، إلى جانب استياء بوتين من تصريحات وزير الخارجية السوري وليد المعلم قبل أيام. ينبغي الإشارة أيضًا إلى أن قول الرئيس بوتين: إن قرار الانسحاب اتخذ بعد أن «حققت القوات الروسية الجزء الأكبر من أهدافها»، هو بالدرجة الأولى لحفظ ماء الوجه، كما أنه لا يعني بالضرورة تحقيق الأهداف الخاصة في الحرب بمعنى مساندة النظام السوري، وإنما تحقيق الأهداف الإستراتيجية لروسيا، وهي العودة للعب دور مركزي في منطقة الشرق الأوسط، إلى جانب محاولة إثبات حقيقة استراتيجية جديدة وهي قدرة روسيا على التدخل العسكري فيما وراء الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي السابق، في الوقت الذي تبدو فيه واشنطن عازفة عن أي تدخل عسكري جديد في المنطقة. وواضح أن قرار الانسحاب بعد خمسة أشهر فقط يعكس بوضوح أن موسكو تعلمت جيدًا من درس أفغانستان من خلال القيام بتدخل عسكري سريع، وعبر ضربات جوية مكثفة، لكن دون التورط في حرب طويلة الأمد، والهدف واضح: تغيير الحقائق على الأرض لصالح النظام الذي تسانده في أقل وقت ممكن وبالحد الأدنى من التكلفة المادية والبشرية. لكن تصريحات المسؤولين الروس أن الغارات الروسية ستواصل هجماتها على «داعش» (من خلال قاعدتيها في اللاذقية وطرسوس) يعني أيضًا أن روسيا تظل موجودة بشكل أو بآخر في سوريا، وأن غاراتها لن تقتصر على استهداف «داعش»، وإنما يمكن أن تستهدف أيضًا -وكما كان الوضع خلال الأشهر الخمسة السابقة- قوات المعارضة المعتدلة بما في ذلك تلك التي تدعمها الاستخبارات الأمريكية المركزية. كما لا يخفى على أحد أن بوتين اتخذ قراره هذا بناء على تنامي الدور السعودي في المنطقة، لاسيما بعد مناورة «رعد الشمال» العسكرية الضخمة التي شاركت فيها 20 دولة، وبعد فك الحصار على تعز الذي يعتبر بداية النهاية للحوثيين وللمخلوع علي عبدالله صالح، وللدور الإيراني في اليمن، وبعد الهزائم السياسية التي مني بها حزب الله وتصنيفه كمنظمة إرهابية من قبل مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، وفي كل الأحوال فإن نجاح مفاوضات جنيف يشكل المقياس الحقيقي لأي تغيّر حقيقي في تطور الموقف الروسي إزاء الأزمة السورية لصالح الحل السياسي الذي يستند إلى المرجعية الدولية التي اعتمدها (جنيف-1) والتي تتمحور حول الفترة الانتقالية.
مشاركة :