تعددت الأمثال والعبارات التي تشير إلى ظاهرة تقدير الغريب بصورة مبالغ فيها، وفي المقابل بخس المحلي حقه من التقدير، بل وأحياناً عدم الظن به خيراً بسبب انتمائه إلى المحلية فحسب. وربما أخذت هذه الظاهرة أشكالاً متعددة؛ منها الحرص على شراء المنتجات الأجنبية ظناً من الناس بجودتها لكونها آتية من الخارج، وتفوقها على المنتجات المحلية، حتى وإن لم يكن ذلك قائماً على معطيات موضوعية، ومنها النظر إلى الأشخاص المنتمين إلى ثقافة أجنبية محددة، بوصفهم أجود من غيرهم المحليين، وبالتالي تصنيفهم على أنهم ذوو قدرات خاصة لا يتمتع بها الأفراد الآخرون. وما أتناوله في هذه المقالة يتعلق بالحالة الأخيرة، وفيها من آداب الشعوب كثير من المقولات، لأنها ليست من مستجدات العصر الحديث. وفي اللغة العربية على وجه الخصوص توجد أمثال وأشعار وحكم تتطرق إلى هذه الظاهرة، منها على سبيل المثال ما يتداول من صيغ متقاربة في بعض البيئات العربية: زامر الحي لا يطرب؛ أي إن الناس في مناطقهم التي يعيشون فيها لا يستمتعون بغناء من ينتمي إلى منطقتهم القريبة، حتى لو كان يملك المؤهلات المطلوبة؛ بل يظنون أن إحداث الطرب لا يستطيعه إلا الغرباء، وعلى ذلك تقاس بقية الأمور. في الآونة الأخيرة تداول الناس في السعودية قصة طبيب أعصاب سعودي كان يعمل في مايو كلينيك الشهيرة في أمريكا؛ بل كان يرأس قسماً هناك. وبعد أن ملّ من الغربة، وأراد أن يكمل بقية عمله في بلده، تواصل مع أحد مستشفيات العاصمة الكبيرة، ورحبوا به، لكنهم عرضوا عليه راتباً لا يصل إلى ربع راتبه الذي كان يتقاضاه هناك؛ وقد وافق على العرض، لأنه كان يرغب في العودة إلى بلاده. غير أنه تفاجأ بعد أن بدأ العمل في قسمه المختص، أنهم جلبوا من مايو كلينيك نفسها أمريكياً من أحد طلاب هذا الطبيب السعودي غير المتميزين، ليرأس القسم، وأعطوه أربعة أو خمسة أضعاف راتب أستاذه السعودي. عندها طفح به الكيل، وقدّم استقالته، ليعود إلى مايو كلينيك مرة أخرى، ويرأس قسمه السابق، وبميزاته المالية السابقة. وقبلها بسنوات، كانت هناك قصة مفزعة أعرف أبطالها بأسمائهم، حدثت في المؤسسة الطبية نفسها؛ حيث عاد طبيبان أخوان من كندا بشهادتين متماثلتين من الجامعة نفسها. وكان أحدهما قد حصل على الجنسية الكندية، بينما أبقى الآخر على جنسيته السعودية؛ لكن السعودي منهما فوجئ بأن أخاه قد حصل على ميزات تفوقه كثيراً بسبب ذلك الجواز الأجنبي من الدرجة الأولى. وأظنه – إن لم تخني الذاكرة - قد عاد أدراجه إلى كندا، ليأخذ الجنسية الكندية، ويعود ليتعاقد معهم بالميزات نفسها، التي مُنحت لأخيه من قبل. ماذا يمكن أن يستفاد من هذه القصص الواقعية؟ عدا عن مسببات الألم التي يحدثها سماع مثل هذه الوقائع؛ تدل مثل هذه الآليات، التي يبدو أنها ليست فردية، على تجذر هذه الظاهرة في أنظمة التوظيف وتصنيف الكوادر، لأن شخصاً مسؤولاً واحداً – مهما كانت مكانته – لا يمكنه أن يتصرف بهذه الصورة دون أن تكون تلك الآليات ضمن بروتوكولات التعيين وتصنيف المستقطبين في تلك الوظائف ودرجاتها. فهل يوجد إهانة للوطن أكبر من هذه الممارسات؟ وقبل ذلك تفتيت للمصداقية، لأنه ما دامت الجنسية هي التي تصنع الكفاءة، فإن أسئلة كبيرة ستحيط بمثل هذه المؤسسات، ومن يصنع الأنظمة فيها. وقد قيل لي من بعض من يعملون فيها، أن شيكات أجور الفئات المختلفة من أعظم الأسرار في تلك المؤسسة، ولا غرو في ذلك!.
مشاركة :