يواجه مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي المثير للجدل، ضغوطاً من الإيرانيين والأميركيين الذين اتفقوا على «ضرورة» ترتيب الأوراق التي خلطها التيار الصدري في محاولته كسر قواعد العملية السياسية في البلاد. كما يواجه حقيقة إن مواصلته التمرد ضد حلفائه الشيعة ستؤدي إلى تغيير الوجه السياسي للقوى السياسية الشيعية الحاكمة. على مدى سنوات، قامت الاستراتيجية الإيرانية على توحيد الأحزاب الشيعية في العراق لكي تتمكن من ترجمة الخصائص الديموغرافية إلى نفوذ سياسي، وبالتالي تعزيز القوة الشيعية في بغداد، ولهذا كان تحرك الصدر بالتمرد على الحكومة خطراً يهدد هذه الصيغة التي سادت خلال السنوات العشر الماضية. ومع الفوارق، يتفق الأميركيون مع الإيرانيين على تحييد أنشطة من شأنها تغيير المسار السياسي في العراق، في وقت تزداد المخاوف من أن تفضي أحداث حزيران (يونيو) ٢٠١٤، حين احتل تنظيم «داعش» ثلث مساحة العراق، إلى فوضى سياسية في بغداد. قبل أن يخرج الصدر إلى الشارع «محتجاً» ضد الحكومة التي يقودها حلفاؤه الشيعة، كان الأميركيون والإيرانيون قد بدأوا للتو بقطف ثمار الاتفاق النووي، وعلى الصعيد السياسي كان الطرفان متفقين على تقاسم النفوذ. وعلى ما يقول سياسي عراقي رفيع، فإنهما تفاهما على تقاسم النفوذ «مناصفة» داخل المؤسسات الحكومية ذات الطابع الاستراتيجي. ومنذ أشهر قليلة، تصرف الأميركيون بطريقة مختلفة «إعلامياً» مع قوات الحشد الشعبي في العراق، بعد سلسلة طويلة من المواقف المتخوفة من دوره «الطائفي»، وصاروا يطلقون رسائل «غزل» بقوة شيعية «تتفق مع واشنطن» على هدف مقاتلة تنظيم داعش. في ١٢ آذار (مارس)، زار القنصل الأميركي في البصرة جرحى الحشد الشعبي الراقدين في المستشفى، في خطوة هي الأولى من نوعها من قبل مسؤول اميركي. وأعلن ستيف ووكر أن حكومة بلاده تشيد بما قدمه الحشد الشعبي من مساهمة مع قوات الجيش العراقي في تحرير بعض المناطق التي سيطر عليها تنظيم «داعش» الإرهابي. وقال، إن «داعش الارهابي سيخسر الحرب لسببين الأول يتعلق بشجاعة قوات الجيش والحشد الشعبي والسبب الآخر يعود إلى مساهمة الولايات المتحدة ودعمها للعراق». لكن الصدر لم يفوت فرصة الرد حين قال في ١٥ آذار (مارس): «سوف احتفظ بالرد لنفسي ضد هذه القنصلية المعادية للإسلام والإنسانية». بالتوازي، كانت الكواليس «الهادئة» بين طهران وواشنطن تطبخ التفاهم الجديد في العراق. تفيد تسريبات خاصة بـ «الحياة» إن جزءاً من هذا التفاهم هو إعادة شخصيات عراقية قريبة من واشنطن إلى الواجهة من جديد. وبالفعل أُجريت تحضيرات «لوجستية» لذلك. يقول قياديان، كردي وشيعي، إن «المناصب الحساسة في الدولة جرى الاتفاق على هيكلتها لضمان التوزيع العادل للنفوذ بين الأميركيين والإيرانيين (…) لقد جرى تأهيل منازل فخمة لإسكان شخصيات مقربة من واشنطن لزجها مجدداً في المشهد، كان أحدهما شيعي أميركي مقيم في بريطانيا، والآخر كردي صديق لواشنطن». قبل أن يدخل مقتدى الصدر على الخط، كان الشكل العام للمؤسسات العراقية، وبعضها سيادي، على وشك التغيير بالكامل. وراقبت واشنطن وطهران الحشود التي جمعها الصدر على أسوار المنطقة الخضراء، مهدداً - ولو بالإشارة - إلى عزمه قيادة إنقلاب أبيض ضد العملية السياسية التي يرعاها الإيرانيون والأميركيون على حد سواء. وتواصل الأميركيون والإيرانيون بكثافة منذ خروج الصدر إلى الشارع، وكان الهاجس الذي جمعهم هو احتمال أن يقلب تياره التوازن السياسي الذي يلبي مصالح الطرفين. في النهاية اتفقا على أن تتحرك قيادات إيرانية للتحاور مع الصدر في شكل مباشر وأن يبقى الأميركيون في انتظار نتائج تحركات «الخصم - الحليف» في العراق. بعد الجمعة الثانية لخروج الصدر، سافر الجنرال قاسم سليماني إلى بغداد، واقتنع بأن حلفاء بلاده في العراق «حائرون وناقمون على الصدر». في تلك اللحظة كانت المنطقة الخضراء تشهد كل يوم خميس ما يشبه إخلاءً لمسؤولين عراقيين لأن العقلية السياسية كانت تتوجس من «حركة جنونية يقوم بها الصدر ويأمر أنصاره باقتحام المنطقة الدولية»، سوى أن الصدر قال ضمن خطاب في ساحة التحرير، «أطمئن البعثات الديبلوماسية في المنطقة الخضراء»، لكنه تلاعب بأعصاب خصومه، «إلا سفارات دول معادية للعراق». واتصل سليماني من بغداد بالصدر الذي كان حينها عائداً إلى النجف، طلب منه المجيء إلى بغداد لـ «الحوار»، لكن الصدر رد عليه بالقول، «من يُرد لقائي فليأتِ حيث أنا». وبالفعل سافر إلى النجف. واجتمع الجنرال الإيراني بالصدر في النجف. يقول قيادي في التيار مقرب من الصدر، إن سليماني بدأ بالسؤال: «ما الذي تريده من كل هذا؟»، بعد أن شرح زعيم التيار مستعرضاً التظاهرات التي يقودها، وقال: «أنا أهدف إلى طرد جميع الفاسدين، ومحاكمة المالكي». وأضاف: «حتى لو تطلب إخراجهم من العراق». امتعض سليماني من حديث الصدر، «طيب.. انت منبهر بجمهورك العريض (…) انبهرت؟! وماذا بعد». أصر الصدر على الإيضاح بأنه مصمم على الاستمرار بما يقوم به حتى قاطعه سليماني، «ما تريده غير قابل للتحقق، كان عليك أن تمهد لذلك بخطوات منطقية». لم يقتنع الصدر بحديث سليماني، الذي قرر أخيراً إنهاء الاجتماع بالقول: «بقي أن تتفاهم مع قيادات التحالف الوطني». بعد هذا اللقاء الفاشل بالنسبة الى سليماني، كثف الجنرال من اتصالاته لتدبير لقاءات بين قادة التحالف، وتحققت بالفعل سلسلة اجتماعات بين عمار الحكيم ومقتدى الصدر وحيدر العبادي، وقال مصدر شيعي في النجف إن المرجعية الدينية أحيطت علماً بأجواء تلك اللقاءات، وعلى رغم ابتعادها عن المناخ السياسي لكن أحاديث أجواء الحوزة كانت تفيد بأن تقارباً في الموقف حدث بين الصدر والمرجع علي السيستاني. والحال، إن هذا الأمر مقلق لإيران التي تنتظر أي فرصة لبسط نفوذها على الحوزة، بينما تقترب مواقف الصدر من المرجع المخالف لمنهج «ولاية الفقيه» في العراق. في زحمة الحراك السياسي الذي يحاول جاهداً لملمة الأوراق التي بعثرها الصدر، ثمة قناعة لدى النخبة السياسية العراقية، بأن الصدر «متحمس، لكنه لم يقدم برنامجاً واضحاً للكيفية التي يريد فيها تحقيق أهدافه». ثمة تخوف من أن الحماسة التي تمكنت من حشد الجمهور يمكن ان تتكسر في غياب الآليات السياسية الناجحة. العجز السياسي والانتظار اللذان أرهقا القوى الشيعية، أخرج نوري المالكي إلى الواجهة. كان رئيس الوزراء السابق يحاول الضغط على حيدر العبادي لإيقاف تمرد الصدر. وينقل مسؤول سياسي مقرب من العبادي، إن المالكي حاول إعطاء سلفه «وصفة ناجحة» للتعامل مع الصدر. وخاطبه بالقول: «أنا أعرف دواء الصدر... عليك القضاء عليه إعلامياً (…) حين كنت في البصرة أقود عمليات صولة الفرسان ضد جيش المهدي الذي كان يحكم طوقاً عليَّ، صعدت من الخطاب ضده في الإعلام وشبهت ما يقوم به بأفعال الإرهابيين حتى ضعف». ويبدو أن العبادي، لن يكون قادراً على تحقيق شيء يوازي الطموحات الإيرانية والأميركية في العراق حيال أزمة الصدر، لقد استنسخ كلمة سابقة للمالكي حين كان في الحكم، وقال في مؤتمر صحافي بعد إعلان الصدر الاعتصام، «إنه لا يجوز أن تكون في الحكومة وتكون معارضاً لها».
مشاركة :