الداخل مفقود والخارج مولود، يصح أن يكون هذا الوضع في مربع المراكز الصحية المرعبة لمرضى السرطان، تدخل مركز بدرية الصباح وتمرّ على مركز فيصل السلطان أويعقوب بهبهاني، وتنتهي بمركز حسين مكي، آخر الأمر لا تعرف مكانك في الزمان، أنت تسير حسب «الهقوة» (التخمين) للغرفة التي يُطلب منك مراجعة الطبيب فيها، إذا كان حظك سعيداً، تدفع ديناراً أو دينارين لعمّال النقل كي يدلوك على الغرفة المطلوبة، إكرامية يستحقونها، فالبلاد تقف على أكتافهم بقوة عملهم هم وغيرهم من الوافدين. أخيراً، يا محاسن القدَر، تجد القسم الطبي المطلوب بعد أن انحرفت يساراً ثم يميناً، ثم إلى الأمام، ثم ولجت دهليزاً يصلك بدهليز آخر ومتاهات من بعد متاهات، وتحمد الله أنك وصلت إلى المكان المطلوب... لا... ليس هذا الشباك الصحيح الذي لا يوجد فيه أحد، فالموظف المسؤول غائب، ويقوم مقامه عامل النقل أو التنظيف البنغالي، هم يعرفون كل الأمور أكثر من آلاف موظفي «تعال باجر» الحكوميين. البنغاليون قوة عمل منتجة لفائض القيمة التي تسرقها منهم المؤسسات التي يعملون بها، لم لا يفكر أهل السلطة في تعيينهم بمناصب عليا بالدولة، كوزراء أو وكلاء وزارة، فهم أكثر دراية بهموم الناس، وأكثر إنتاجاً من ملوك البشوت؟! أخيراً، وصلت إلى الشباك المطلوب، شكراً يارب، تأخد منك الموظفة الغارقة في البحث عن أسماء تائهة أو تفكيك رموز سحرية في سجلّ أمامها، كارت المراجعة، وتطلب منك الانتظار، ثم تنتظر وعيناك مسلّطتان على شاشة الأرقام الملونة، وتنتظر ثم تنتظر، ثم المزيد من الانتظار، الأرقام ثابتة لا تتحرك، هي مسمار بلوح، وتعود تسأل موظفة الاستقبال الغارقة بالرموز السحرية، ما المشكلة الآن؟ ترد: لا توجد مشكلة، سنحرك اللوحة الآن، لا سيتم النداء بالأسماء. وأخيراً وصل الطبيب، تنادي الممرضة: «مفرك كالد أوتيبي» باللهجة الهندية، ربما تعني المريض مفرج خالد العتيبي، لا توجد مشكلة... في بلد سكانه هم الأقلية المخدومة والأكثرية هم من القوى الخادمة الأجنبية، وضع مؤقت طبعاً بعد ثورة التكويت القادمة التي يقودها نواب ووزراء الخدمات بتعليمات عليا من شيوخ السلطة، والتي ستحدث إن شاء الله بعد نهاية عصر النفط وإفلاس صندوق الاستثمارات.. ولا يبقى لنا بعدها غير عقولنا وسواعدنا المنتجة. تدخل إلى غرفة الطبيب، ينقل الطبيب عينيه في أوراق الملف ويحوّل بصره للشاشة الطرشاء أمامه، ويعود يبحث بين الأوراق... أنت المريض وليس الأوراق... لا جدوى... الطبيب المسكين ضائع أكثر منك من ثقل أعداد المراجعين وملفاتهم، ولا أحد يدري عنهم، خبيصة فوضى العمل لا يعرف عنها المسؤول الكبير، بعد أن فرش مؤخرته على كرسي الإدارة، وانشغلت يده بالتوقيع، وتاهت روحه بقلق انتظار تعليمات من مسؤول أعلى... أخيراً، يفاجئك الطبيب بأن ورقة فحص المختبر لعيّنة الورم غير موجودة، وعليك مراجعة مستشفى حكومي آخر للحصول عليها! لماذا لا توجد خدمة تواصل «إنترنت» بين مستشفيات الدولة، فيدخل الطبيب على ملف المريض في أي مستشفى، ليبحث عن المطلوب؟ هل تسمع هذا يا سعادة وزير الصحة ومعك وكيل الوزارة... لماذا أنتم نائمون على طمام المرحوم؟ نحن ندرك التركة الثقيلة للفطاحل الذين شغلوا المنصب قبلك، ولكن هل يعني هذا أن تترك الأمور على حالها؟ اصحوا يا كبار... حكومة إلكترونية هي مسرحية سخيفة كما تُعرض في وزارة الصحة... ماذا ستعملون يا أصحاب السعادة والوجاهة أمام مأساة التخلّف التي تخيطها وتنتجها إداراتكم المتعاقبة؟ ويا الله تزيد النعمة. تخرج من مربع الأمراض المستعصية، وكنت قبل ولوجها يساورك بعض شك في خلية سرطانية في جسدك... الآن أنت متأكد من أن السرطان يخيّم على جسدك وينهش في جسد الدولة، ولا أحد يدري عن الأمر من بخصائها المداوين... وكان الله بعون أجيال الضياع.
مشاركة :