يحتل الخطاب العذري الأموي ـ أشعاره وأخباره ـ مكانة مميزة في الأدب العربي، وبالرغم من أن هذا الخطاب ذا أصول جاهلية إذ إنه لم يكن وليد العصر الأموي، فقط، فإنه تم تشكيله بشكل جديد في العصر الأموي نتيجة الصدام الحضاري الذي شهدته بعض القبائل البدوية المنعزلة في البادية، التي عانت من الحرمان إذ لم يصبها نصيب من ثمرة الفتوحات العربية الإسلامية، ومنها قبيلة بني عذرة، التي عبر شعراؤها عن هذا الموقف الذي يصور التمزق بين ما هو موروث وما هو جديد، هذا الجديد ـ الدين الإسلامي ـ الذي كان له التأثير البالغ في النفس العربية، فشكلها وفق رؤيته للكون والحياة، أي أن الحضارة العربية الإسلامية الجديدة قد أثرت في تشكيل مواقف هذه القبائل من النظام الأموي المدني، فمن ثم عبر الخطاب العذري الأموي عن لون من العشق يلتزم فيه الشاعر بالقيم الإسلامية وبالتقاليد البدوية معا. وهذا الكتاب "جماليات تلقي الخطاب العذري" الصادر عن الهيئة المصرية للكتاب للناقد د.معتز سلامة يعالج جملة القراءات التي دارت حول الخطاب العذري، ودراسة آليات القراءات النقدية القديمة والحديثة للخطاب العذري وطرقها ومناهجها ووجهات نظرها، والبحث عن التنظيم الداخلي للنص النقدي، ومحاولة الكشف عن العلاقات التي تحكمه محدثة التوازن أو الاختلال بين عناصره. وكذلك الكشف عن مدى نجاح القارئ القديم والمحدث في استجلاء مفاهيم جديدة عن الخطاب العذري، وإلى أي حد مكنته طريقته في القراءة في إضاءة هذا الخطاب واستخلاص معانيه وكشف خصوصية تركيبه. يقول سلامة أن المتأمل في الخطاب العذري الأموي يدرك أنه خطاب يجمع بين عدة معطيات، وأن أشعاره وأخباره يدفعان بالقارئ إلى تصور عدة أطروحات لتفسير هذا الخطاب ذا المنابع المتعددة التي تحمل بعدا عربيا جاهليا وبعدا عربيا إسلاميا سياسيا بشكل غير مباشر. ومما لا شك فيه أن العمل الأدبي القابل لتعدد التفسيرات هو عمل غني وثري تظل كل قراءة جديدة له قادرة على الكشف عن أسرار جديدة مدفونة فيه، وكلما كثرت أسرار النص وتنامت أسئلته كان نصا قابلا لقراءات جديدة. فأخطر ما في الخطاب العذري الأموي حيويته الفائقة وأصالته الملفتة وقوته الشعرية،الأمر الذي جعله في طليعة الأدب الأموي الذي يلفت انتباه القارئ القديم والمعاصر باستمرار، والذي يؤكد هذه الحيوية والأصالة هو استمرار دراسة هذه الظاهرة إلى عصرنا الحديث، وصلاحية دراستها بمناهج نقدية مختلفة سواء أكانت هذه المناهج تاريخية أم اجتماعية أم نفسية أم بنيوية أم غيرها من المناهج النقدية المتعددة. وانطلاقا من تحليلاته للخطابات النقدية الحديثة للخطاب العذري، يرى سلامة أن العمل الأدبي لا يكتسب قيمته ووجوده إلا عن طريق ما يضيفه إلى المتلقي، وما يضيفه المتلقي إليه عن طريق تجربته الخاصة، وذلك ما يجعل العمل عالما خاصا غنيا بالدلالات والإشارات وتعدد الخاصة، فالمعنى شركة بين القارئ والنص، ومن ثم تتعدد تفسيرات العمل الأدبي بتعدد القراء في ضوء تجاربهم الذاتية وتكوينهم الثقافي والفكري والاجتماعي المختلف. فقيمة العمل الأدبي لا تكمن فقط في نوع الرؤية التي يطرحها بل تكمن أيضا في تعدد تلقياته وتنوع الرؤى التي يطرحها كل قارئ أثناء ممارسته عملية القراءة. ويشير إلى أن الدخول إلى عالم العمل الأدبي بأفكار مسبقة من القارئ لا يخدم عملية القراءة أو إنتاج معنى جديدا لأن انتباه القارئ سيكون متوجها إلى نقاط معينة داخل العمل الأدبي، وبالتالي إغفال نقاط أخرى قد تكون أكثر أهمية في إبراز معنى العمل الأدبي وكذلك إذا ما تم قراءة العمل العمل الأدبي عبر متوسطات قرآنية، وليست عبر خبرة القارئ وثقافته وتكوينه المعرفي الخاص به، لأن ذلك يوقع القارئ أسير القراءات السابقة وبالتالي لن ينتج معنى جديدا للعمل المقروء. ويؤكد سلامة إن الكشف عن المعنى الخفي للنص، وتجاوز الدلالة الظاهرة واللجوءإلى التأويل، يستلزم من القارئ ملأ فراغات النص، إذ إن كل نص يحتوي على مجموعة من الفراغات يقوم القارئ بملئها بما لديه من مخزون ثقافي ووعي بالنص الذي يقرؤه حتى يصل إلى إنتاج المعنىظن وملء الفراغات يختلف من قارئ لآخر، بحسب الفراغات التي يصل إليها كل قارئ أثناء القراءة، وهذا يؤدي إلى أن يبني القارئ أفقا جديدا، يعينه على تذوق النص، وإدراك جماله الفني. وهذه الفراغاات تحمي النص من الوقوع في فوضى التأويلات، لأن كل تأويل سيتحتم عليه أن ينطلق من النص لا من خارجه، يبحث عن العناصر النصية التي تؤيد تأويله وتجعله متسقا مع باقي عناصر النص. ويرى أن الخطاب العذري ـ أشعاره وأخباره ـ استحواذ على اهتمام النقاد، فأخذوا في دراسته، وفحصه وصولا إلى عالمه الجمالي. فقد استطاع هذا الخطاب أن يثير جدلا جماليا زاخرا بالأنساق الجمالية والمعرفية معا، فقد قرأ النقاد هذا الخطاب قراءات شتى عبر آليات واستراتيجيات قرائية متعددة.الأمر الذي جعل هذا الخطاب يظهر كظاهرة أدبية خصبة قادرة على جذب كافة الأنظمة الجمالية والمعرفية للتعامل مع عالمها الفني لسبر تراكيبها، والكشف عن سماتها الفنية والوصول إلى آفاقها البنائية المتعددة. مما جعلها تتكشف لنا كسيرورة؛ لأنها لم تقف عند مستوى واحد في التلقي، بل كان هناك تنوع في مستويات تلقيها مما يدل على أننا أمام خطاب كلاسيكي على درجة عالية من الجودة والقيمة الفنية مما سمح بتعدد تلقيه. ويلفت سلامة إلى أن الخطاب العذري كغيره من الخطابات الأدبية يختلف باختلاف قرائه ويعود هذا الاختلاف إلى تباين الآليات التي يتبعها القراء في تفاعلهم معه، ولهذه الآليات مكونات ونتائج، أما المكونات فتتمثل في ثقافة القارئ والمناهج النقدية المستخدمة في عملية القراءة اللتين تشكلان القرائية التي يتبعها القارئ في تقديمه لعناصر وتأخيره لعناصر أخرى، وإنتاجه معنى النص وتقييمه. ويلاحظ أن القراءات السياقية في الخطاب النقدي العربي الحديث تعاملت مع الخطاب العذري تعاملا خارجيا، ونظرت إليه على أنه وثيقة تبريرية لمقولات خارجية، سواء أكانت تاريخية أم نفسية أم اجتماعية أم دينية، ولهذا وجدناها قد أهملت الجوانب الفنية في الخطاب العذري، واتجهت إلى العوامل الخارجية. يضاف إلى ذلك أن هذه القراءات تعاملت مع قارئ مفترض في ذهن الناقد يتوجه إليه بالشرح أو التقصير. وأعطت التوصيل مكانة مهمة في عملية الإبداع الشعري، بحيث حصرت دور المبدع في نقل فكرة ما، وجعلت مهمة الناقد شرح تلك الفكرة؛ لإيصالها لقارئه. وبذلك تم وضع الشعر العذري وأخباره ضمن أطر محددة مسبقة، فهي إما تعبير عن الظروف السياسية التي ظهرت في العصر الأموي، كما في القراءات التاريخية، وإما نتيجة تعبير عن كبت نفسي ورغبات كامنة في لاوعي الشاعر، كما في القراءة النفسية. وقد يصل الأمر بالقارئ إلى تفسير الخطاب العذري عبر رده إلى الظروف الاجتماعية والتقاليد التي أحاطت بالشاعر العذري، كما في القراءة الاجتماعية. وقد يصل الأمر بالقارئ إلى رفض الخطاب العذري أو تجاهله لتعارضه مع قناعته وأفكاره الخاصة، كما في القراءة الدينية. وفي ذلك كله يتحول الخطاب العذري إلى مضمون وليس إلى صيغة فنية تؤدي دورا في تاريخ الأدب العربي. ويهيمن الجانب التفسيري للقارئ على ما سواه إذ يفرض أفق توقعه الخاص على كل علاقات ذلك النص.
مشاركة :