السودان من مشكلة أمنية لمصر إلى دولة استراتيجية | محمد أبوالفضل | صحيفة العرب

  • 8/16/2020
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

تنطوي الزيارة التي قام بها إلى الخرطوم، السبت، رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، على كثير من المضامين السياسية البعيدة. فهذه من المرات النادرة التي يرأس فيها مسؤول مصري رفيع وفدا ذا طبيعة خدمية متشابكة، حيث درجت القاهرة على التعامل مع السودان منذ عهد الرئيس السابق عمر البشير، على أنه مشكلة أمنية مُلحّة. لم تتخل القاهرة عن هذه القاعدة، واستمرت رؤيتها على هذا المنوال بعد سقوط البشير وبدء المرحلة الانتقالية، حيث انصبت غالبية الزيارات والحوارات على الشق الأمني، بحكم أن سودان البشير تحول إلى قاعدة لاستقطاب الكثير من الجماعات المتطرفة، وأصبح مركزا لإقامة عدد كبير من قيادات الإخوان، وممرا لتهريب الأسلحة والإرهابيين لداخل حدود مصر من الجنوب. لم يخل الأمر من توقيع اتفاقيات في مجالات مختلفة، لكن ظلت هواجس المشكلة الأمنية حاضرة، ما تسبب في فشل تنفيذ الكثير من الالتزامات التي تعهد بها كل طرف لتطوير العلاقات على مسارات عديدة، من بينها المسار الأمني نفسه، والذي لا يزال يحيط به ضباب كثيف، وهو ما جعل رهن العلاقات بهذا الشق في هذه الأجواء يمثل ضررا للبلدين. تؤكد العناوين الخدمية في مجالات النقل والكهرباء والصحة والتعليم والريّ التي حملتها زيارة مدبولي للخرطوم، إمكانية الخروج من عنق الزجاجة وولوج مجالات أرحب يحتاجها السودان، الذي ظل يشكو حتى وقت قريب من العقدة الأمنية المصرية، فإذا كان نظام البشير فرض هذا الواقع فقد رحل منذ أكثر من عام ولم تتغير هذه الرؤية. أثّرت هذه المسألة على حظوظ القاهرة في القيام بدور مؤثر في التطورات المتسارعة، ما منح قوى إقليمية فرصة أكبر للانخراط في الهموم السياسية التي يعيشها السودان، ولم تتمكن الأولى من الاقتراب منها بالشكل الذي يليق بأهمية هذا البلد الاستراتيجي للأمن القومي المصري، والذي يتجاوز حدود الروافد السلبية للجماعات المتطرفة. شعر قطاع كبير من السودانيين أن كل ما يهمّ مصر هو عدم تحول بلدهم إلى منغص أمني لها، وإذا ضمنت ذلك لن يهمها ما يجري في السودان من تطورات، وترسخ هذا الاعتقاد للدرجة التي كلما جرى فيها الحديث عن مقاربة مع الخرطوم لا يشعرون بالتفاؤل حيالها، خوفا من أن تصبح كرة ثلج تتعلق بالإرهاب وذيوله، ولا تتطرق إلى حزمة أخرى من القضايا التي لا تقلّ خطورة. تأكدت هواجسهم مع كل زيارة يقوم بها رئيس المخابرات المصرية اللواء عباس كامل، إلى الخرطوم منذ سقوط نظام البشير، وكان هو المسؤول الذي وطأت أقدامه السودان أكثر من غيره، وفي كل مرة جرى الحديث عن تبادل معلومات تتعلق بتفاصيل المحور الأمني. تولّد انطباع عام بأن أهمية السودان بالنسبة إلى مصر لا تتجاوز هذا البعد، وعندما يأتي ذكر القاهرة بشأن عزمها تقريب الرؤى بين قوى سودانية مختلفة، تتراجع حظوظ التجاوب مع هذا الطرح، بل تظهر ملامح رفض وغضب وممانعات واتهامات عديدة، وكأن أيّ تدخل سيتم توظيفه في الخندق الأمني فقط، الأمر الذي جعل القاهرة (تقريبا) خارج حلبة الوساطات الإقليمية. حرصت القوى السياسية السودانية المتفاعلة مع القاهرة تاريخيا على الاحتفاظ بمسافة بعيدا عنها، كي لا تتّهم بأنها أحد أذرع تنفيذ أجندتها، والتي لا تتجاوز حسب تقديرات فئات كثيرة المربع الأمني، بما انعكس على أيّ محاولة مصرية للوساطة، وإن على سبيل جس النبض. ومع أن البلدين وقّعا الكثير من الاتفاقيات المشتركة في مجالات خدمية منذ عقود، لكن غالبيتها لم تر النور وبقيت حبيسة الأدراج، أو لم ينفّذ منها سوى النذر اليسير، لأن المخاوف السودانية والتصرفات المصرية كانت تصبّ في عقدة البعد الأمني، والذي جعل الخرطوم بالنسبة إلى القاهرة مصدرا لتصدير الأزمات وليس بابا للأمن والاستقرار. يعتقد متابعون، أن زيارة مدبولي للخرطوم، السبت، يمكن أن تغير من شكل العلاقة التقليدية، وتضعها على طريق أرحب، يمثل الشق الأمني فيها جزءا، لا يرقى لمتحكّم وحيد في مفاصلها الرئيسية، فقد أدركت القاهرة أن التوجهات السابقة لم تحقق لها الحماية المطلوبة. كما أن إهمال الجوانب الأخرى، وهي ذات أهمية فائقة بالنسبة إلى السودان، أفقد القاهرة الكثير من تعاطف المواطنين، حتى نأت عن دوائر الحلفاء والأصدقاء والمقربين، ولم تكن رابطة الجوار على المستوى المطلوب، في ظل ارتهانها بالمكونات أمنية مزعجة للطرفين. مراقبون: زيارة مدبولي للخرطوم يمكن أن تغير من شكل العلاقة التقليدية بين البلدين مراقبون: زيارة مدبولي للخرطوم يمكن أن تغير من شكل العلاقة التقليدية بين البلدين يواجه السودان أزمات اقتصادية واجتماعية ساخنة، إذا جرى التغلب عليها قد تصبح كل أزمة أمنية ضئيلة لاحقا، وهو المفتاح الذي انتبهت القاهرة إليه مؤخرا، وحرّضها على مزيد من التقارب مع السودان، فالمشاركة في حلّ الأزمات المتراكمة ربما يفتح أبوابا واسعة لتطوير العلاقات، والتي دخلت عليها متغيّرات في غاية الخطورة تتعلق بأزمة سد النهضة الإثيوبي، وما يحمله من مفاجآت تؤثر على نصيب مصر التاريخي من المياه. يقول مراقبون، إنه أحد أهم الزوايا التي تفرض على القاهرة تعديل رؤيتها من السودان الأمني إلى الاستراتيجي، بمعنى النظر إليه بطريقة أكثر شمولا، فأيّ ميول إيجابية تقوم بها الخرطوم نحو أديس أبابا سوف تؤدي إلى تداعيات سلبية على مصر في هذه المرحلة، خاصة أن القاهرة تواجه مأزقا في المفاوضات، والتي لم تحرز تقدما، وتوشك أن تنزلق إلى وضع خطير، إذا لم تتكاتف مصر والسودان لتبنّي رؤية تفاوضية موحدة. جنت مصر خسائر كبيرة جراء انحياز السودان إلى إثيوبيا في عهد البشير، وبداية المرحلة الانتقالية الحالية، بما مكّن أديس أبابا من المضيّ قدما في بناء سد النهضة بالطريقة التي تريدها، ويمكن أن تجني المزيد من الخسائر إذا فقدت التعاون والتنسيق مع الخرطوم، أو سلكت الأخيرة بابا مستقلا، ففي الحالتين يمكن أن تستفيد إثيوبيا من هذا التباعد. تريد مصر تطوير العلاقات في المجالات الخدمية المتباينة لمساعدة السلطة الانتقالية على تخطّي أزماتها المتضخمة، قبل أن تقطف قوى أخرى الثمرات، حيث ضجّ السودان بالمشكلات، وبدأت تؤثر على الخارطة السياسية والأمنية، ولم تعد السلطة قادرة على مواجهة التحديات بمفردها. أبدت بعض الدول، ضمن ما يسمى بـ”أصدقاء السودان” وخارجه، استعدادا لمساعدته، بينما تظل القاهرة حبيسة عقدة تراجعت الكثير من مكوّناتها في ظل القبضة المصرية القوية على الحدود، وكشف خيوط عديدة لتنظيمات متطرفة تتحرّك بين دول المنطقة، فضلا عن التحولات التي لحقت بالبيئة المحلية، وجزء من أهدافها تقويض دور الحركة الإسلامية في السودان. يشير كل تأخر للقاهرة عن مساعدة الخرطوم في جميع المجالات إلى مزيد من التنافر، ويمنح الفرصة لقوى مناهضة تتربص بمصالح مصر مع السودان ودول الجوار، للدخول على الخط، فالعلاقات حاليا تقوم على المنافع المتبادلة، وما لم يتم إحراز تطورات ملموسة سوف تواجه القاهرة تحديات مضاعفة، لأن السودان عمق استراتيجي، يمسّ عصب القضايا الأمنية والمائية والاقتصادية والاجتماعية المشتركة. يتوقّف ضبط دفة العلاقات ونموّها بين البلدين على عاملين مهمين، سوف تنعكس نتيجتهما مباشرة على مصر، والشكل المنتظر أن تكون عليه خلال المرحلة المقبلة. الأول: تغيير التصوّرات التي ترى في السودان عقدة أمنية، وبناء أخرى تنطلق إلى فضاءات شاملة وعميقة قبل فوات الأوان، فالسودان الذي يعاني حاليا من أزمات حادة ثمة جهات مستعدة لانتشاله مقابل الحصول على مزايا حيوية، بينها دول تكنّ للقاهرة عداء سافرا. الثاني: يخص عقيدة مصر في القيام بدور إقليمي، فمن الضروري الخروج من عباءة الانكماش التي أرخت بظلال قاتمة على مصالح القاهرة مع الخرطوم وغيرها، فشكل العلاقة مع السودان يمكن أن يحدد معالم هذا الدور، وهل هناك طموح مّا يمكّن من توثيق الروابط في مجالات عدة، أم هو دور مؤقت يستهدف إنقاذ مصر من أزمة سد النهضة بالتعاون مع السودان؟ تصبّ المعطيات الراهنة في خانة وجود استدارة مصرية حقيقية للتعامل مع السودان على أنه دولة استراتيجية لها أهمية فائقة، ويتخطى النظرة الأمنية الضيقة.

مشاركة :