تحركت تونس أخيرا لمراجعة الاتفاقية التجارية غير المتكافئة مع تركيا، والتي ساهمت كأحد العوامل الرئيسية في ضرب المنتجات التونسية. وقالت حكومة أحمد الحشاني الجمعة إنها ستفرض ضرائب جمركية على بعض المنتجات الصناعية التركية، وهذا مفهوم ومتوقع وجاء استجابة لدعوة الكثير من السياسيين والنشطاء على مواقع التواصل الذين طالبوا بوقف سياسة إغراق السوق التونسية بالمنتجات التركية في قطاعات حيوية مثل الملابس والمنتجات الزراعية، ملاحظين أن هذا الإغراق ساهم إلى حد كبير في إغلاق مصانع النسيج ودكاكين بيع الملابس التونسية جنبا إلى جنب مع التجارة الموازية التي تعتمد على منتجات صينية مهربة وتديرها لوبيات نافذة. ليست تونس أول دولة ولا آخر دولة تعمد إلى سن ضرائب على المنتجات الوافدة، فالولايات المتحدة تفرض ضريبة الدخول على المنتجات الصينية والأوروبية التي تدخل إلى السوق الأميركية حتى تقدر المنتجات المحلية على المنافسة خاصة أن المنتجات الوافدة رخيصة وبعضها مدعوم من الدولة. اقتصاديا من حق تونس أن تحمي اقتصادها وأن تفرض ضرائب على منتجات تركية رخيصة تغرق البلاد وتقضي كليا على المنتجات المحلية خاصة أن العجز التجاري مع تركيا قد وصل إلى ما يزيد عن مليار دولار. من المرجّح أن تسير تركيا في اتجاه القبول بالقرار التونسي والسعي للطمأنة وإبداء الرغبة في الحوار وزيادة التعاون مثلما حصل مع دول الخليج ومصر ولا يمكن الحجاج بأن القرار يستند إلى موقف سياسي بالدرجة الأولى، فالحكومة تطارد التجارة الموازية بمختلف أنواعها والجهات التي تأتي منها، والهدف هو منع إغراق السوق التونسية بسلع على حساب المنتجات المحلية، وهو ما يسري على المنتجات التركية التي تأتي في الغالب بشكل قانوني في ظل اتفاقية تجارية تم إقرارها في 2004. وإلى حدود ثورة 2011 كان تنفيذ الاتفاقية يسير بشكل متوازن، لكن بعد ذلك توقفت دواليب الاقتصاد التونسي كليا بسبب عجز الطبقة السياسية عن إدارة الدولة. لم يهتم الحكام الجدد، وعلى رأسهم حركة النهضة الإسلامية، لحال الاقتصاد، ولم يتخذوا أي إجراءات حمائية. وعلى العكس قابلت النهضة الدعوات إلى الحد من هيمنة المنتجات التركية على السوق التونسية بالتجاهل، ووجدت أن ذلك يصب في صالح حليفها الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي كان يقدم نفسه وصيا على الإسلام السياسي في الشرق الأوسط. وكان ممثلو هذا الإسلام يعتقدون أن الولاء لتركيا يحميهم ويقوّيهم من دون أن يتساءلوا عن نتائج مثل هذا الولاء على البلدان التي يحكمونها. وطالما أن الامتياز التركي في السوق التونسية كان سياسيا، فإن سحبه أو تحجيمه سينظر إليه سياسيا من قبل أردوغان الذي سيسعى إلى انتقاد الموقف التونسي الجديد وربطه بنظرية المؤامرة على تركيا، ويمكن أن يعمل على رد الفعل من خلال علاقاته في الجزائر وليبيا، وهو أمر حصل من قبل حيث ظهر جليا تأثر موقف الجيران بالحسابات التركية تجاه تونس بعد 2021. وإذا كانت ردة الفعل التركية تجاه تونس في السابق محسوبة ولم تنزلق إلى التصعيد طالما أن مصالحها الاقتصادية لم تتأثر، بالرغم من توقيف رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، وبالرغم من التصريحات التي كانت تصدر عن الرئيس التركي في شكل مزايدات مثل تلك التي تعقلت بحل البرلمان، فإن رد الفعل هذه المرة قد يكون مختلفة تماما، لأن الموضوع يتعلق باستهداف مصالح تركيا ونفوذها والتسهيلات التي كانت تحظى بها. وكان أردوغان وصف قرار تونس بحل البرلمان السابق في أبريل من العام الماضي بأنه “تشويه للديمقراطية” وضربة لإرادة الشعب، وهي تصريحات أثارت ردود فعل كبيرة في الساحة السياسية التونسية. ولمعرفته بحساسية التدخلات الخارجية في الشأن التونسي، اكتفى الرئيس التركي بتعليق فضفاض بشأن توقيف الغنوشي في أبريل الماضي حين قال “الإدارة الحالية في تونس أوقفت أخي الغنوشي. لم نتمكّن بعد من التواصل مع السلطات في تونس عبر الهاتف لكننا سنواصل محاولة الوصول إليهم. وفي حال تمكنا من الحديث معهم، سنخبرهم بأننا لا نرى هذا (إيقاف الغنوشي) مناسبا”. ورغم أن كلام أردوغان بشأن الغنوشي لا يتجاوز تسجيل الموقف حتى لا يقال إنه قد سكت على توقيف “صديق” و”أخ”، إلا أن الرئيس التونسي قيس سعيد ذكّر الرئيس التركي بأن تونس لم تتدخل في شؤون بلاده حين كان يعتقل المعارضين. وألمح الرئيس سعيد إلى أن “دولا تنتقد تونس وفي نفس الوقت هي تعتقل مواطنين وسياسيين ولكننا لم نتدخل”، في إشارة واضحة إلى أردوغان وبيان الخارجية التركية حول موضوع الغنوشي. من حق تونس أن تحمي اقتصادها وأن تفرض ضرائب على منتجات تركية رخيصة تغرق البلاد وتقضي كليا على المنتجات المحلية خاصة أن العجز التجاري مع تركيا قد وصل إلى ما يزيد عن مليار دولار ويرفض الرئيس التونسي أيّ شكل من أشكال التدخلات الخارجية تحت عناوين حقوق الإنسان والديمقراطية ونصائح الجمعيات الحقوقية والمدنية، ويعتبر ذلك مسّا من السيادة التونسية، وهو ما بدا أن أردوغان قد استوعبه بشكل جيد، ذلك أنه لم يعد للحديث عن موضوع الغنوشي ثانية، وهو يضع نصب عينيه مصالح بلاده في تونس. والسؤال هو: كيف سيكون موقف أردوغان بعد قرار فرض ضرائب على البضائع التركية، هل سيلجأ إلى التصعيد الكلامي كما هو معهود، وهو ما من شأنه أن يزيد من التعقيدات المحيطة بالوجود الاقتصادي التركي في تونس وبحركة التجارة البينية، أم سيلجأ إلى مسار الحوار الدبلوماسي والمفاوضات الهادئة بعيدا عن الأنظار وعن الشعارات التي ضاعفت من مشاكل تركيا مع المحيط الإقليمي؟ من المرجّح أن تسير تركيا في اتجاه القبول بالقرار التونسي والسعي للطمأنة وإبداء الرغبة في الحوار وزيادة التعاون مثلما حصل مع دول الخليج ومصر ضمن مراجعات تركية تستبطن توجها يقوم على معالجة مخلفات التصعيد الكلامي الذي أفقد تركيا الكثير من الفرص الواعدة خاصة في الخليج. نظريا قرار فرض ضرائب على جزء من البضائع التركية يؤدي إلى وضعها على مستوى جمركي واحد مع سلع وبضائع بقية الدول التي تتعامل معها تونس أوروبيا وعربيا، لكن تركيا تريد المعاملة التفضيلية دائما، وهو ما قد يقود إلى توتر جديد في العلاقات، وربما يكون له تأثير مباشر على حركة تنقل التونسيين إلى تركيا التي تحوّلت إلى وجهة لتجار الشنطة من التونسيين، وهي وجهة مفضلة بسبب رخص البضاعة التركية وخاصة انعدام الضرائب على توريدها. وشهدت المبادلات التجارية عجزا غير مسبوق لصالح الاقتصاد التركي، وفتحت الأسواق التونسية أمام البضائع التركية خاصة في مجال الصناعات الغذائية والاستهلاكية وقطاع النسيج والأدوات المنزلية ومواد أخرى يتم تصنيعها في تونس بجودة أفضل، وكذلك أمام الشركات التركية للاستئثار بالحصة الأكبر من الصفقات الكبرى، وهو ما تسبّب في إنهاك الاقتصاد التونسي، وضرب الإنتاج المحلي وإفلاس شركات تونسية.
مشاركة :