وجع المواطن السوري لم يقتصر على الحرب الأهلية التي دارت في سوريا ومزقت هذا البلد مخلفة الآلاف من الضحايا، بل تعدى ذلك إلى المواطنين الذين فروا من هول الحرب وهاجروا نحو أوروبا رغم ما حف برحلاتهم من مخاطر جمة أولها الموت غرقا في أعماق البحار، فضلا عن فراق الأهل والأحباب. في عمل مسرحي بعنوان “ترحال – أرواح مهاجرة” للمخرج ماهر صليبي، سجل المسرح السوري مشاركته ضمن المسابقة الرسمية للدورة الرابعة والعشرين من أيام قرطاج المسرحية التي تنعقد هذا العام من 2 وحتى 10 ديسمبر الجاري. وقد تم تقديم هذا العرض مساء الخميس 7 ديسمبر بقاعة الفن الرابع بالعاصمة. والعمل نص وإخراج ماهر صليبي، كوريغرافيا علاء كريميد، موسيقى كرم صليبي، إضاءة رضوان زركي، تمثيل مؤيد الخراط، ميريانا معلولي، وماهر صليبي. كما يشارك في الرقص كل من لانا فهمي، ومازن نحلاوي، وراما خليفة، ولويس ألبيرتو باهامون. ويسلط المخرج الضوء على قصة حب جمعت شابا وشابة من سوريا واستمرت علاقة هذا الحب بعد أن هاجر الشاب إلى أوروبا لتحقيق حلمه في العيش الأفضل وإنجاز معارض فنية، لكنه يلقى حتفه هناك قبل التحاق حبيبته به للعيش معه. ولتسليط الضوء على هذه المأساة، وظف المخرج العديد من التقنيات من مراوحة بين التمثيل والتعبيرات الكوريغرافية، فكانت هذه الحركات الراقصة مرآة عاكسة لأوضاع نفسية تتداخل فيها مشاعر الحيرة والغضب والألم والمعاناة والاضطراب، جسد منهك ومكبل يقاوم بعد المسافات من أجل الوصال ولقاء الأحبة. هذه الحركات الكوريغرافية التي تخللت المسرحية تكررت بين فينة وأخرى فلعبت وظيفة كسر الرتابة عن العرض والتعبير عن نفسيتي البطلين اللذين يمثلان نموذجا للسوريين المهاجرين في مختلف بلدان العالم ولعل الحضور المستمر لحقائب السفر ضمن المكونات على الخشبة يحمل دلالة كبيرة على الترحال المستمر للسوريين. وأما قصة الحبيبين التي بنيت حولها الأحداث، فلم يكن ما يحول بين الوصل بينهما إلا الهجرة، فدوافع الفراق لم تكن جراء تدخل الأهل ولم تكن بسب الشجار المستمر أو الغيرة أو الخيانة، وإنما كان الدافع الرئيسي هو الهجرة إكراها لا رغبة من أجل تحسين ظروف العيش لاسيما أن الشخصية الرئيسية في المسرحية فنان تشكيلي لم تكن الظروف مهيأة له لممارسة فنه في موطنه. وتركز المسرحية على الجانب النفسي للشخصيات من خلال رصد حالات الصراع والتخبط التي يعيشها الإنسان مع ذاته أو في علاقته بالآخر (بين العشيقين)، وهي في الأصل علاقة رمزية بين الإنسان والذات والإنسان والإنسان، وقد بدت هذه العلاقة متذبذبة بما أن الشخصيتين في وضع اتصال روحي مستمر ولكنهما منفصلان جغرافيا. وتمجد المسرحية قيمة الحياة وتعلي من أهمية الحب كحق إنساني في الوجود والعيش بحرية وسلام في بيئة مجردة من أشكال الظلم والعنف والإقصاء. وماهر صليبي فنان ومخرج سوري، تخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق عام 1986، عمل كأستاذ في المعهد العالي للفنون المسرحية لمدة عشر سنوات، وقدم مجموعة من الأعمال الشهيرة في السينما السورية. شارك في عدة مهرجانات سينمائية، منها مهرجان فالنسيا السينمائي بإسبانيا ومن أشهر أعماله فيلم “حدوتة المطر” الذي حصل إثره على جائزتين في مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان بغداد السينمائي الدولي. ومن أبرز أفلامه “الطحالب، الليل، حياة عادية”، ومن مسلسلاته “العراب”، نادي الشرق”، حصاد الزمن”، ولادة من الخاصرة”. ولديه عشرات الأعمال الدرامية والمسرحية والسينمائية الأخرى. مع بدء الثورة السورية عام 2011 اتخذ صليبي وزوجته الفنانة يارا صبري موقفا معارضا لنظام الرئيس بشار الأسد ومؤيدا للثورة، وأمام تعرضهما لتهديدات ومضايقات أمنية، اضطر الزوجان للهجرة من سوريا إلى دولة الإمارات العربية المتحدة التي يعيشان فيها منذ العام 2012. ويأتي عمل “ترحال – أرواح مهاجرة” كانعكاس لتجربة الفنان الحية، حيث هو المخرج والممثل، والبطل الحقيقي للعمل، إذ أجبرته الحرب على ترحال لم يكن يرغب فيه، وأجبرت روحه على الهجرة من موطنه، وعلى ملاحقته سياسيا لمعارضته الحزب الحاكم، وهي كلها مواضيع تطرقت إليها المسرحية، إلا أنه لم يبتعد عن كل أحبته، ومازال الحب يشجعه على الإنتاج الفني.
مشاركة :