أرجوحة الزمن... سيرة ومسيرة ديبلوماسي لبناني

  • 3/26/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كدنا نسمع زفرات ظافر الحسن وهو يتنفس الصعداء العام 1999 في ما وصفه بولادته الجديدة، سنة إحالته على التقاعد من السلك الديبلوماسي – الوظيفي، فيقول: «اعتبرت انفكاكي عن الدولة، وتفرغي للاهتمام بشؤوني الشخصية، لا سيما في المجال الفكري حقاً وحقيقة ولادة جديدة» (ص 804 من الكتاب الصادر حديثاً عن دار النهار للأمين العام السابق لوزارة الخارجية اللبنانية الدكتور ظافر الحسن بعنوان «أرجوحة الزمن – سيرة ومسيرة»). الديبلوماسي الذي دخل هذا السلك عام 1962 آتياً من ملفات العمل القضائي، جال لعقود في رحابه المعقّد والعنكبوتي العلاقات، والقفازات المخملية بقبضات متوحشة لدى مصالح الدول، ومثلها لدى الأشخاص من ذوي الضعف النفسي. الحسن الذي نقرأه في أرجوحته، نقرأ ما قاله عن ذاته في غلاف الصفحة المقابلة للغلاف «... واحتفظت دائماً بمسافة بيني وبين الأحياء والأشياء لتكون رؤيتي أكثر وضوحاً ودقة. ألم تقل الحكمة منذ القدم وبصواب كليّ أن شدة القرب حجاب؟». هذه المسافة التي أفسح لميدانها حبه الأثير وهو كتابة الشعر، والأدب، والترجمة، وقد أتقن من اللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية، إضافة إلى حبه اليومي لمطالعة الكتب حديثها والقديم، وفي تعيين ملاحظاته النقدية في هوامشها، مع وعد منه بإصدار كتاب عن طرائف حصلت أثناء عمله في السلك الديبلوماسي (ص807)، ومثله في الشعر الذي لم ينشره، ومنه قصيدة من 371 بيتاً كتبها في باريس بين العاشر والعشرين من شباط (فبراير) 1975 تناولت مغادرته بيروت والعاملين في السفارة، وختمها بأربعة أبيات داعياً زملاءه وسائر الموظفين إلى تذكُّر قول السيد المسيح: من كان منكم بلا خطيئة... (ص663)، وقصيدة أخرى من 104 أبيات كتبها العام 1971 عن الوضع السياسي في لبنان والاستياء من أعمال المسؤولين السياسيين (ص409)، ليفصح في نثرياته- إثر نقاش حول أي وجه للبنان– بالقول: «أكثر ما أخشاه في المحصلة الأخيرة أن يكون بلدنا المسكين وطناً بأقنعة كثيرة ولكن من دون وجه» (ص492). قد يساورنا العجز ونحن ننقب في مدوّنات الحسن المنثورة في كتابه عن قصص مخفية في عالم الديبلوماسية تثير فينا متعة استكشاف مسرح السياسة الذي لطالما يستغبي عقول متابعيه، ولكن لسوء في الحظ، فإن الحسن يبدو شديد التحفظ إلا من نتف هنا وهناك تدل على شخصية سفير– زميل، أو سياسي غير متمرس، والقليل من عالم الفضائح التي لا يبدو أنه يستمزج عالمها وهو المرهف بكتابة الشعر والنثر واستخلاص عبر الحياة، وهو ما قاله في كلمة تكريمية له: «أنا لا أتحدث في كتابي عن الزمن بل عن إسقاطاته، مستعرضاً جملة من الحوادث والآراء والمواقف، تشكل شيئاً من معالم زماني الشخصي وبعض الأزمنة الخاصة التي لا تعدو كونها جزئيات صغيرة من الزمن المديد، وأردت من تدويني إياها أن تكون مساهمة ثقافية متواضعة متعددة المناحي». لكن ذلك لا يحول دون مقارنة بعض محطات حصلت وكأنها لا تزال تحصل وتقع دونما علاج وحذر. من هذه المحطات يوم دخل سلك القضاء فوجد في فرع القضايا العام 1962 «أربعة عشر ألف دعوى عالقة، وأن عمل الفرع بطيء، وأن أولوية عمل المحامين المتعاقدين تذهب إلى قضايا مكاتبهم، وأن الإنتاجية متروكة للاستعداد الشخصي» (ص 216)، و «أن إصلاح شأن المغتربين لا يمكن أن يتم إلا بعد إصلاح شأن المقيمين، فعلى الدولة أن تكون دولة، أي عادلة وقادرة» (ص270)، و «جولة الرئيس الراحل سليمان فرنجية وكان وزيراً للاقتصاد في الحكومة الأخيرة للرئيس الراحل شارل حلو على موسكو وبروكسيل»، إذ بدأ يعد نفسه بالرئاسة «وقد أخبرني السفير كسروان لبكي- سفير لبنان في بروكسيل يومها- أن مراجع بلجيكية عالية أسرت إليه قبل حصول الانتخابات الرئاسية بأربعة أيام أن النجاح سيكون من حظ الوزير فرنجية» (ص380)، وهنا لا يسعنا استغراب التمجيد اللبناني بديموقراطية تلك الانتخابات الرئاسية العام 1970 ووصول فرنجية إلى سدتها بفارق صوت كمال جنبلاط!. أما عن شؤون العرب وشجونهم فإن الحسن يمررها بين السطور ساطعة كما لو أنها لم تغب، يقول أنه تقرر عقد قمة استثنائية لجامعة الدول العربية في 22 آب (أغسطس) 1962 في فندق بارك أوتيل شتورة لبحث مسألة الانفصال بين مصر وسورية على أثر انفراط الوحدة بينهما، وكانت تحت شعار احتواء الخلافات وكبحها، «لكن أحد الضباط السوريين من أعضاء أحد الوفدين شهر مسدسه... الخ (ص230)، و «تكرس الانفصال»، وأيضاً «في رغبة الملك الأردني الراحل حسين في سلوك سياسة منفردة تجاه إسرائيل بعد هزيمة 67» (ص313)، وعن «أميركا التي تريد أن تذّل العرب وتنتهي منهم، وإن تصلبها ضدهم كامل، وإنها تريد إسقاط عبد الناصر، تريد رأسه بأية طريقة» (ص315- حول اجتماع في الأمم المتحدة بعد حرب الـ67)، وعن تأفف وزير الخارجية خليل أبو حمد من رفض الدول العربية إدراج الإرهاب على جدول أعمال الجمعية العمومية في الأمم المتحدة بعد اعتداءات إسرائيلية على جنوب لبنان (ص500)، وعن المعلومات التي أبلغه إياها الأمين العام لجمعية التضامن الفرنسي- العربي لوسيان بترلان «عن دخول خمسين إسرائيلياً بشكل فردي ومتتابع خلال الأيام الأخيرة إلى فرنسا بجوازات سفر غير إسرائيلية ومعظمهم يهود من أصول شمال أفريقية، وأن المعلومات تشير إلى كونهم من الإرهابيين ومثيري الشغب ومهمتهم القيام بأعمال عنف تستهدف أشخاصاً بارزين أو ديبلوماسيين عرب وفلسطينيين (ص503)، ويكمل أنه بعد هذه المعلومات اغتيل ممثل منظمة التحرير الفلسطينية محمود الهمشري في بيته بالمتفجرات وتم إشعال صاعقها بواسطة الهاتف. وأيضاً عن قناعة الجانب الفرنسي بسقوط نظرية التفوق العسكري الإسرائيلي وعدم قابلية جيشها للانهزام بعد حرب 73 (ص565)، وكسينجر- أي أميركا- في أولويتها حماية إسرائيل وتدفق النفط (ص634)، وعن توقيع لبنان العام 1965 اتفاقية تجارية مع السوق الأوروبية، لكنه لم يفلح بعد محادثات شاقة في تلك السنة من تحقيق اختراقات في السوق لصالح المنتجات اللبنانية بل أن المحادثات انحدرت إلى استعداد الجانب الأوروبي لاستيراد البقدونس! في حين أن العضوية بصفة مراقب كانت من نصيب إسرائيل لاحقاً! ظافر الحسن الديبلوماسي (أصدر هذه السيرة في عشرة مجلدات عن دار النهار في الفترة ما بين 2010 و2013 وقد شملت 38 عاماً في تجربته في هذا السلك)، لطالما آثر تظهير المستبطن في دواخله شعراً فكتب إثر توقعه بانزلاق لبنان إلى حربه الأهلية العام 1975 هذه الأبيات من قصيدة له: «هم غيّروا أسماءها أما قلوبهم فما برحت زمان الجاهلية، فـ «اللاة» صارت طائفية، وتكنّت «العزّى» باسم المذهبية، أما «مُناة» فأُلبست في هذه الأيام ثوب العنصرية، عجباً لقومي يزعمون أنهم يستبسلون لأجل إنقاذ الكرامة والمبادئ والقضية، جثثاً مبعثرةً غدت فتكت بها عبثاً رماح البربرية» (ص689)، لينهي زفراته بالقول: تلك هي حكاية الوطن، فابك هذا الوطن الحبيب» (ص647).     * صحافية لبنانية

مشاركة :