أمل العودة لماذا ينافس بعضهم كرم حاتم الطائي عندما يأتي الأمر لتقديم النصائح؟ لماذا يبالغون في إسداء المواعظ في كل الأوساط والمجالس ويبذلونها بسخاء وببذخ بطلب أو بدونه؟ لماذا يسهب بعضهم على سبيل النصح في شتى شؤون الحياة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ودينية؟ يقدمون لك كومة نصائح أياً كان وضعك، فإن عزمت على الزواج فلك نصيحة، وإن أردت إكمال دراستك فلك نصيحة، وإن قررت أن تنجب كثيراً أو قليلاً لك نصيحة، وإن نويت السفر فلك نصيحة.. تمتد نصائحهم للسياسة الخارجية وخطط التنمية والتصدي لنظريات المؤامرة في حين يعجز بعضهم أحياناً عن إيجاد إجابة للسؤال الوجودي «وش نتعشى الليلة؟».. ألهذا الحد تبدو الحياة لغزاً أو متاهة لا سبيل لك للعيش إلا باستماعك لنصائح الآخرين؟ وإن كانت الحياة فعلاً «شفرة» لا تستطيع فهمها، فهل حقاً نصائح الآخرين مجدية وكفيلة بإحداث الفرق في حياة غيرهم؟ أم أن الشخص مهما سمع من تجارب الآخرين، فإنه لا يتعلم إلا من تجاربه وخبراته الخاصة؟ هل يعتقد من ينثر نصائحه بمناسبة أو دون مناسبة أن مجرد كلمات عابرة ستغير حياة من يستمع لها أو تقلبها رأساً على عقب؟ ولنفترض جدلاً جدوى النصائح، هل يعتقد من يمنحها على العلن أن نصيحة واحدة ستناسب الجميع بكافة أطيافهم واختلافهم وتنوع ظروفهم؟ أم يتوقع من الآخرين أن يقولبوا حياتهم ليسعهم القالب الذي صممه الناصح لهم؟ عندما أعلنت سيدة خمسينية فاضلة عبر حسابها في تويتر عن إصابتها بسرطان الثدي، رغبت من خلال مشاركة الآخرين تجربتها أن تقوم بتوعية النساء عن أهمية الكشف المبكر عن سرطان الثدي، وأن تشارك كذلك كثيراً من النساء المصابات رحلتهن في التعامل مع هذا المرض وتقديم الدعم والعون والنصح لهن. كثيراً من الناس أثنوا على شجاعة تلك السيدة في مبادرتها وأمطروها بجميل الدعوات والأمنيات بالصحة والشفاء والعمر المديد، لكن عينة أخرى من البشر انهالت كالطوفان بالنصح والموعظة والتذكير بالموت لتلك السيدة، متسائلين كيف ترجو من الله العافية وهي تقوم بمعصيته وتحمل وزر وذنب من يرى وجهها المحجب بغير إبداء زينة ليل نهار! يزعم بعضهم أن هذا المرض تنبيه لها من الله أن تعود لجادة الحق والصواب فتغطي وجهها وتترك عملها كطبيبة تداوي نساءهم في مجال مختلط! كنت أيضاً أتابع أُمّاً متفانية في العناية بصغيرها وتعرض بعضاً من لمحات يومهما معاً كتحضير وجباته ووقت لعبه أو نومه وتعبه. شاء الله تعالى أن يمر طفلها بعارض صحي جلل فطلبت من متابعيها لها أن يدعوا لابنها بتمام الصحة العافية لعل فيمن يتابعها من أقسم على الله لأبره. ورغم جميل الدعوات وأصدقها، كان هناك من ينهرها لعرضها يوميات طفلها رغم أنها لم تكن تعرض وجهه أو صورته وأن ما حصل له هو من جراء الحسد؛ فكثير من الناس يفتقدون الذرية ولا بد أن غريزتهم الماسة للأمومة أو الأبوة أصابت الطفل في مقتل. وإذا سلمنا جدلاً أن ما حدث للطفل هو من أثر العين، فهل مصاب الأم المكلومة على وليدها يبدو زمناً وظرفاً ملائماً لإبداء نصيحة من هذا النوع! هناك من كان يوبخها توبيخاً يرتدي رداء النصح تارة والحرص تارة أخرى بأن مصاب طفلها كان نتيجة «استعراضها وهياطها» بأمومتها، وأن ما حدث لها كان جزاء وفاقاً! أما طامة الطوام فهو من نهى الآخرين عن الدعاء بشفاء الصغير متعللاً بالخيرة فيما اختاره الله، فماذا لو نجا الطفل من هذا الموت المحقق وكان عاصياً أو عاقاً أو داعشياً! إن كنت على الضفة الأخرى، فلاشك أن النصيحة ثقيلة على النفس ولا أحد يحب أن يتلقاها، وإذا وجدت نفسك مضطراً لإسدائها فمن أبسط شيم المروءة أن تتحلى بآدابها وأن لا تكون سخياً في إبدائها طالما لم تطلب منك، وأن تحاول جاهداً أن تتسامى عن اعتقادك الراسخ «بأنك أبخص».. ثم إذا كان الشخص الذي تود نصحه في اتساق مع نفسه وظروفه مهما بدت لك غريبة أو غير مقبولة أو خارجة عن المألوف، فمن تعتقد نفسك حتى تطلب منه تغييرها أو تعديلها لتتماشى مع تصورك للحياة الصحيحة وتعريفك للعيش الطيب؟
مشاركة :