الرواية نوع من أنواع التوثيق للحياة بشكلٍ عام، فهي عمل سردي يتميز بأنه يعبر عن الموضوع نفسه الذي يحدده الكاتب، والذي يتيح للكاتب في الوقت نفسه أن يطرح وجهة نظره تجاه الأشيا، والأحداث، والحياة. والعلاقة بين الفلسفة والرواية عالميًّا راسخة، وهناك أعمال تمثل علامات يتحاور فيها السرد مع الفلسفة بشكلٍ واضح، وعلى رأسها "الغريب" لألبير كامو، و"المحاكمة" لفرانز كافكا، و"الخلود" لميلان كونديرا وغيرها من الأعمال. والسؤال بشكلٍ عام: هل يحضر الخطاب الفلسفي في الرواية العربية؟ والإجابة: بالتأكيد نعم. فالخطاب الفلسفي يتيح للروائي التحدث عن وجوه الحياة الـمختلفة بأريحية، ومكر في نفس الوقت، فما هو محرّم عليه أن يقوله بشكلٍ مباشر؛ يمكن أن يقوله بطريقةٍ ناعمة وسهلة من خلال السرد الروائي. وإذا تأملنا رواية "بعد أن يُسدل الستار" للكاتب الدكتور عمرو عافيه، سنجد أن الكاتب يُبلور وجهة نظره تجاه الحياة، والأشياء في عبارة شهيرة جدًا، اتخذها كتصدير لعمله الروائي وهي "وما الدنيا إلا مسرحٌ كبيرٌ"، والتي اشتهر بها الفنان الراحل يوسف بك وهبي، ونُسبت إليه؛ بالرغم من أنها في الأصل مقولة شهيرة للكاتب المسرحي العالمي وليم شكسبير، ولم يفعل ذلك الكاتب دون قصد، لكنه أراد أن يضع القارئ منذ البداية أمام تساؤل فلسفي كبير، وهو: كيف يذكر الكاتب تحت العبارة "بصوت فنان الشعب يوسف بك وهبي" ثم يقول: "عن المدعو شكسبير"؟! وهل يقوم الكاتب هنا بعملية عصف ذهني للقارئ؟ والحقيقة أن الإجابة تشي بقصدية الكاتب المستترة خلف الكلمات، والتي تشير للقارئ منذ البداية بمدي غياب مصداقية الأفعال والأقوال في هذه الحياة، وكيف أن ما يُقدم للإنسان بإتقان مهما كانت درجة صدقه، ففي النهاية سيكون معيار الحقيقة هو درجة تصديق الغير له، واقتناعهم بما يقول، لذلك اتخذ الكاتب الشكل المسرحي لتقديم عمله الروائي السردي، فالمسرح هو: المَسْرَح في اللغة هو مكان تمثيل المسرحيّة، وجمعه مَسارِح، وفي معناه الفني هو شكل من أشكال الفن يتم فيه تحويل نص المسرحيّة الأدبي المكتوب إلى مشاهد تمثيليّة، يؤدّيها الممثلون على خشبة المسرح أمام حشد من الجمهور. إذن فما أراد الكاتب أن يرسخه في ذهن القارئ منذ البداية هو "أن هذه الحياة بالفعل ما هي إلا مسرحية يقوم كلٌّ منا فيها بدورٍ ما، ويحاول إتقانه، حتى يصفق له الجميع، وذلك من خلال حكاية سردية أبطالها "تحية ــ عادل ــ عبد الله". فيبدأ الرواية بداية من دقات المسرح الثلاث؛ وكل دقة تحمل اسم أحد شخوص العمل، ليقوم كلٌّ منهم بدور الراوي المشارك في الأحداث بعد أن يُعرف القارئ بنفسه، وعلاقته بالآخرين داخل السرد، وقد استبدل الكاتب الدقة الثالثة باسم "عاكف"، وذلك لصلته بعبد الله، فهو أخوه الأكبر، والذي قام بتربيته، بل والذي تدور أحداث الرواية بفصولها المسرحية الثلاثة في فيلته أو بيته على شاطئ ستانلي بالإسكندرية، كما ذكر ذلك الكاتب في بداية روايته على لسان الراوي العليم صـ11 حيث يقول: المكان: غرفة معيشة عائلة عاكف.. الزمانُ: الزمن الحاضر دائماً. وقبل ذلك قدم صورة لدعوة حضور مسرحية تحمل عنوان الرواية نفسه "بعد أن يُسدل الستار" مرسلة من فرقة عاكف المسرحية، إلى عائلة د. حسن عافية وحرمه المصون، وذلك في صــ7، ثم يليها في صــ9 شخصيات المسرحية، وذلك لإيهام القارئ بأن ما بين يديه هو عملا مسرحيا في شكل روائي، أو رواية في شكل مسرحي، أيهما أقرب إلى اقتناعه الشخصي فهو ليس ما يعنيه الكاتب، ولكن الهدف الأساسي هو إقناع القارئ بأن "جميع شخوص العمل الذي بين يديه يمثلون على بعضهم البعض؛ وبالرغم من ذلك فهم يصدقون بعضهم البعض أيضاً"، المهم فيما يقولون أو يفعلون هو درجة الإتقان، حتى ينعموا بالتصفيق! يأخذنا الكاتب بعد ذلك لنتعرف علي حياة "عاكف" وزوجته "ناهد شوقي" الممثلة المشهورة، وكيف تبدَّل بهم الحال بعد أن فقد عاكف كل شيء. أما شخصية تحية بطلة الرواية، فهي شخصية ثرية جدًا دراميًّا، مليئة بالألغاز، لكنها في الوقت نفسه تحمل بداخلها عقدة نفسية تجاه الرجال، بسبب قتل والدها لوالدتها، بدفعه لها من أعلى السلم وهي في شهرها الأخير من الحمل، لتخرج تحية للحياة يتيمة الأم. وقد تجلت هذه العقدة عند تحية، حينما أمرت صديقها عادل أن يدفع حبيبها عبد الله وثلاثتهم بقارب في وسط النيل، ليغرق عبدالله أمام عينيها، ثم تلوم عادل علي فعلته الشنيعة التي أمرته هي بها! فيذهب بعد ذلك عادل إلي الإسكندرية، ليحل محل عبدالله في منزله، بعد أن أقنعته تحيه بالشبه الشديد بينهما، وأتقنت دورها في ذلك لدرجة أن عادل نفسه صدق ذلك! ألم نقل إنه من المهم إتقان دورك! ونستطيع أن نقول إن الكاتب وضع بين أيدينا رواية مختلفة في بنيتها السردية تماما، يمكن أن نطلق عليها "رواية مسرحية ــ أو ــ مسرحية روائية" تُمثل الواقع بما يحمله من تناقضات سيطرت على شخوص الرواية، وأضفت عليها نوعًا من الغموض، مما يدفع بمشاركة القارئ للكاتب بطرح الكثير من التساؤلات الفلسفية تجاه حياة هؤلاء الشخصيات.. هذا بخلاف الدهشة التي تنتابه أثناء معايشته للأحداث. إن عمرو عافية تُرضي غرور من يعشق المسرح، وقراءة الروايات في آنٍ. فهي تُعكس عبثية المسرح والحياة معاً، وتجعل من القارئ جزءًا لا يتجزأ من العمل، فمثلًا نجد الكاتب يقول على لسان الراوي المشارك "عبد الله" في صــ294: "ما هذا؟! أسمعُ صوتًا في الصالة أو من القارئ: ماذا تريد؟". انتهي الاقتباس. فالكاتب هنا يُشرك القارئ في السرد، وكأنه أحد شخوص الرواية! ثم تأتي النهاية التي تؤكد على وجهة نظر الكاتب تجاه الحياة، ويرسل بها رسالة مضمرة تخرج من بين السطور تتلخص في: "ليس من المهم أن ما تقوله يطابق الواقع، ولكن المهم أن يقتنع الجمهور ويصفق لك في نهاية العرض" وذلك حينما يذكر على لسان الراوي المشارك "عبدالله" صــ 296: "تراه ــ أقصد الكاتب ــ قد اختار أن يبدأ الرواية قبل سنة من يومنا هذا الذي أسقطنا فيه من طائرات العدو الغادر للدولة المزعومة كما يقول "هيكل" في جريدة الأهرام، أكثر من 129 طائرة ــ حتى يوقفني وحيدًا في هذا المشهد". انتهي الاقتباس وإذا عرفنا أن أحداث الرواية تبدأ من منتصف عام 1966 إلى منتصف عام 1967، فسوف ندرك مدى صدق ما ذكره هيكل بجريدة الأهرام، ومن الذي أُسقطت طائراته في ذلك السجال المشئوم! فهل سنأخذ وقتنا، ونفكر جيدًا قبل أن نصفق بعد أن يرفع الستار، أم لا؟!
مشاركة :