يؤكد الناقد المصري الدكتور محمد أبوالسعود الخياري أن جدلية العلاقة بين المبدعين والعاصمة جديرة بالدراسة والتأمل، فلا يخفى ذلك الأثر الكبير الذي يصيب المبدع بإقامته في عاصمة وطنه، وذلك التوهج الذي يدب حوله من تأثير الشعور بالوجود، وسط مركز الأحداث والاهتمام الإعلامي المتنوع. يناقش الخياري هذه القضية في إصداره الجديد «الروائي والعاصمة... كواكب لا تدور حول الشمس»، راصداً تجارب روائية مهمة. صدر حديثاً في القاهرة عن دار «غراب»، كتاب جديد للناقد المصري الدكتور محمد أبوالسعود الخياري، بعنوان «الروائي والعاصمة... كواكب لا تدور حول الشمس»، يقع في نحو 300 صفحة، ويهتم برصد ظاهرة الروائيين المتحققين في أنحاء مصر بمعزل عن عاصمة الأضواء والتوهج، القاهرة. يأتي هذا الكتاب خطوة جديدة في مشوار النقد المستقل الذي يسير فيه محمد الخياري على نحو واضح في كتبه ومقالاته النقدية. وعبر خمسة فصول يتناول نحو ثلاثين روائيًا توزعوا في ربوع مصر. يقول الخياري في مقدمة الكتاب، إن جدلية العلاقة بين المبدعين والعاصمة جديرة بالدراسة والتأمل، فلا يخفى ذلك الأثر الكبير الذي يصيب المبدع بإقامته في عاصمة وطنه، وذلك التوهج الذي يدب حوله من تأثير الشعور بالوجود وسط مركز الأحداث والاهتمام الإعلامي المتنوع. وقضية مبدعي العاصمة ومبدعي الأقاليم قديمة وعميقة، إلا أن انتشار ثقافة التواصل الاجتماعي وسيطرة الإنترنت أعطت بعض الأمل في إزالة الفجوة بين العالمين، وهو ما تحقق بنسبة ضئيلة، بحسب الخياري. بعيداً عن الضوء واهتم الكتاب بإبراز المنجز الإبداعي لهؤلاء الروائيين، وحقيقة تحققهم بعيداً عن القاهرة في قراهم ومدنهم البعيدة عن الضوء، خاتماً الحديث حول كل روائي بنص من إحدى رواياته الحديثة. وقد طاف الكتاب بين الأجيال الروائية جميعها – حتى أنه استوعب من رحلوا مثل فؤاد حجازي في المنصورة، ويحيى الطاهر عبدالله في الصعيد، وتوقف عند الأجيال الجديدة مثل داليا أصلان في المنصورة، ودعاء إبراهيم في الإسكندرية. كما سلّط الضوء على بعض الكتّاب الكبار، ولكن من زاوية استغنائهم عن القاهرة مثل أحمد خالد توفيق، وسعيد سالم. وابتكر المؤلف طريقة جديدة في التقديم للمبدعين، حيث جعلهم شخصيات في مشهد سردي تخييلي في مدخل كل فصل، يلتقي المبدعون الكبار بالشباب من داخل الإقليم أو المدينة، ويتحاورون على الطعام أو على المقهى، ويتحدثون عن أحوالهم وإبداعاتهم المختلفة. المؤلف قدّم للمبدعين بطريقة مبتكرة حيث جعلهم شخصيات مشهد سردي تخييلي ونطالع هذه الطريقة في مدخل الفصل الأول: «هرع العم (إبراهيم عبدالمجيد) إلى رجلين يمشيان نحوه وابتسامة ودّ قديم أضاءت وجوههم حتى التقوا في عناق حار، وانضمت إليهم في الموعد سيدتان، أربعينية وجهها تحتله ابتسامة عذبة، فيما تجلس نظارة لامعة فوق الابتسامة... آه (عمار يا إسكندرية) قالتها ريم بسيوني مع تنهيدة حارة، وفي أثرها أسرعت دعاء إبراهيم التي لم تتوقف عن اللهاث المصاحب لخطوتها السريعة، فقد جاءت من اليابان خصيصاً لحضور قمة (الإسكندرية الروائية)... تنهيدة ريم بسيوني ولهاث دعاء إبراهيم انسجما تماماً مع إرهاق الطريق الذي ظهر على وجهي الكبيرين سعيد سالم ومصطفى نصر. لقد حمل سعيد سالم، ومصطفى نصر في جيوبهما الواسعة نسمة من هواء الإسكندرية، حملاها هدية أيقظت روح الروائي السكندري الذي لا ينام في القاهرة. ضحكات صاخبة من صوت حاد اقتربت تدريجياً من الطاولة السكندرية، فتحت ريم بسيوني عينيها على اتساعها، وأشار إبراهيم عبدالمجيد صاحب الضحكات للكرسي الملاصق له: أهلاً بفاكهة الصيف والشتاء. رأس من الشوكولاتة الداكنة المبهجة يعلو ثوباً أبيض واسع الأكمام مستدير الرقبة يشبه دورقاً شفافاً من الحليب، هذا الرجل الضاحك الذي جمع الشوكولاتة مع الحليب، وبدا حياؤه ملفتًا، وحضوره كالمطر كان الروائي النوبي المولود بالإسكندرية عام 1944، حجاج أدول. طلب لهم أبوزياد الشاي، فطلب مصطفى نصر الماء البارد أولًا، ولفت سعيد سالم إلى أنهما يفضلان الطعام قبل الشاي... واكتفت ريم بسيوني بإناء فاخر تحمله في حقيبتها تشرب منه مشروبها المفضل (الموكّا الساخنة بالبندق والكراميل)، ومثلها حملت دعاء إبراهيم كوباً متوسط الحجم من السيراميك المزركش بالرسوم اليابانية زاهية الألوان، إلا أن حجاج أدول أشار برأسه لعبدالمجيد بعلامة الموافقة على الشاي، واحتساه ساخنا جدا وهو يهم بالوقوف. طالعه إبراهيم عبدالمجيد بعينين جاحظتين، وطلب منه انتظار الغداء، فرد حجاج بكلمات قليلة وسط اعتذار خجول وضجيج ابتسامة: والله كنت أود قضاء النهار كله معكم هنا، لكنني على موعد على الغداء مع أحبة مثلكم في الشارع القبلي، وأعرف أنهم لن يأكلوا حتى وصولي. حاول عبدالمجيد تقمُّص دور صاحب البيت، وتحدث لصبي المقهى بحماس وبساطة صاحب المكان، لكن الغربة كانت بادية عليه أكثر من صديقيه، رغم إرهاقهما وراحته. واختلس السكندريان المقيمان نظرة إشفاق لحال رفيقهما الذي حقق في القاهرة كل شيء، بيد أنه على ما يبدو لايزال قلقاً في البلدة الأخرى رغم تراكم الجوائز وتسلل سنوات العمر». جوائز رغم الظل وقد عرفت الجوائز طريقها إلى هؤلاء الروائيين رغم الظل، فحصد سعيد سالم وسام الدولة وجائزة الدولة التقديرية، وفاز أيمن رجب بجائزة كتارا في الرواية، وحصد أحمد أبوخنيجر ورضا البهات وأحمد صبري أبوالفتوح وحجاج أدول جائزة ساويرس الثقافية، كما نال عادل عصمت وريم بسيوني جائزة نجيب محفوظ، وحصدت انتصار عبدالمنعم ونورا ناجي جائزة الدولة التشجيعية، واختير مصطفى نصر وسمير المنزلاوي للتكريم بواسطة دائرة الشارقة الثقافية، ووصلت داليا أصلان ودعاء إبراهيم للقائمة القصيرة لجائزة كتارا، وفاز فكري عمر بجائزة المجلس الأعلى للثقافة.
مشاركة :