لا تزال عبارة: "إن الحاضر يحمل في ملامحه صورة من الماضي"، من أهم العبارات التي قرأتها عموما، لكن مع ذلك، فإن تحديد الملامح التي تنتقل من الحاضر إلى المستقبل تعد أكبر تحد يواجه المعرفة الإنسانية، سأوضح ذلك قليلا. نحن نجد أن صدق المعرفة الإنسانية يكمن في قدرتنا على استخلاص ما يسمى "الاطراد في العالم"، أي تلك السنن الكونية المتكررة التي تحكم حركة "المادة" في العالم ومنها الإنسان، وعندما أقول "سنن" فليس بالضرورة أن تكون تلك السنن مادية أيضا، المهم أن تكون مدركة عقلا، فمثلا القوة، الطاقة، الزمان، كلها مفاهيم ليست مادية، لكنها مدركة عقلا، القبض على الاطراد "أي معرفة السنن الكونية" هو التحدي الأكبر. فكل مناهج العلم مهما اختلفت منطلقاتها "دينية، تجريبية، وتحليلية" تقدم وعدا بأنها تملك القدرة على القبض على الاطراد "أي المعرفة"، لكن المهم ليس الحديث عن التاريخ، وما حصل عندما تم إضافة مادة "أ" إلى المادة "ب"، المهم أن "تضمن لي" بأن ذلك سيحدث في المستقبل أيضا، إذ لا فائدة في أن تخبرني بأنه كلما أعلنت الشركة الأرباح تحرك سعر السهم، بينما المهم غدا هو أن يتحرك السهم فعلا بالقدر نفسه عندما تعلن الشركة أرباحا. هذا هو ما أسميه "الحاضر الذي يحمل في ملامحه صورة من الماضي"، فالمعرفة الإنسانية على هذا النحو قائمة اليوم على تحديد ما هي ملامح الماضي التي عرفناها "حدثت فعلا"، وستبقى معنا للمستقبل "بحكم الاطراد"، ولأني أهتم بالشأن الاقتصادي، فسأضع أمام القارئ الكريم لمحة لما أظنه "سيبقى معنا"، وسيسهم في رسم صورة المستقبل، ومن المهم "في نظري" أن تتبلور القرارات حول هذه النقاط، قرارات مثل نوع التعليم والوظيفة والاستثمار. الأصل في الاقتصاد هو قوة العمل، وهي الطاقة الموجودة في الإنسان التي يضيفها لأي شكل من أشكال المادة فتصبح مفيدة لإنسان آخر، دون تلك الطاقة، فإن المادة تظل هامدة لا فائدة منها. هذا يحتم علينا سؤالا مهما: هل يمكن للمادة أن تنتج ذلك النوع من طاقة العمل ومن ذاتها فقط؟ عندي قول واحد، بأنه لا يمكن للمادة أن تنتج هذه الطاقة أبدا، هنا قد يتبادر للذهن ذلك المدعو الذكاء الاصطناعي اليوم والذي أصبح يتحدى الإنسان في العمل، فهو يستطيع ظاهريا أن يقدم طاقة العمل بقدر ضخم جدا، ويحقنها في الآلات الأخرى والأشياء لتصبح مفيدة، لكن الحقيقة أن هذا ظاهري فقط، فالأصل أن الإنسان الآلي أو الذكاء الاصطناعي قد تم حقنه بهذه الطاقة "الإنسانية" في مرحلة ما من صناعته وإعداداته، فإذا كان هذا الذكاء الاصطناعي مقلقا اليوم لأنه قادر على اتخاذ قرارات حاسمة في قضايا مهمة بما يملكه من معلومات وبيانات، وأصبح قادرا على السير منفردا في الشوارع "السيارات الذكية"، واتخاذ قرارات استثمارية مهمة، فإن الأصل لم يزل موجودا في قوة العمل التي صنعت هذا الجهاز، فما هو شكل المستقبل هنا. لا شك أن تأثير الذكاء الاصطناعي سيتعاظم، وستنتقل أعمال كثيرة للذكاء الاصطناعي، وستهدد بذلك الكثير من البشر، لكنها أعمال تتسم بأنها مجهدة أو خطرة أو تتطلب معالجة ذهنية لمعلومات كثيرة، أو تدريبا رتيبا لا جديد بشأنه ولا ابتكار، هذه الأنواع من الأعمال ستكون مهددة بالذكاء الاصطناعي، فإذا كنت في أحد هذه الأعمال وأنت في مقتبل العمر، فعليك أن تبدأ فورا بالنظر وبجد في مستقبل عملك، ذلك أن طاقة العمل لديك ستكون مهددة بطاقة العمل المخزنة في الآلة، ولن تكون مجديا أمامها، وسيتم استبدالك لاحقا، فلا هي تأخد إجازة ولا تتعب ولا تهرم، وليس لها ساعات محددة، ويمكن الاتصال بها في أي وقت، لكن من الأفضل لك أن تكون ممن يمنح الآلة هذه الطاقة، "أي أن تكون في مجالات تصميم وتشغيل ومعالجة وصيانة هذه الآلات في تخصصك"، فكر في الأمر جيدا. الأمر الثاني، في الاقتصاد هو رأس المال المالي، فأي اقتصاد لا يمكن أن يعمل ما لم يتم تعويض العمال عن الطاقة التي فقدوها في العمل، "عن طريق تأمين الغذاء الكافي لهم"، هذا يتطلب دفع مبالغ لهم لشراء احتياجاتهم من الغذاء، فالنقد مهم جدا وحاسم، وسيظل أهم عنصر من عناصر الاقتصاد، إذ هو المقياس الوحيد المعروف حاليا لتحديد قيمة العمل، هذا المقياس يتعرض اليوم لهزة عنيفة، فهو ذو أشكال مختلفة، فقد يكون ورقيا، وقد يكون رقميا، وهناك اتجاه قوي مدعوم سياسيا بشأن التحول التام للعملات الرقمية، في السياق نفسه هناك اليوم عملات مشفرة كثيرة بعضها أثبتت فشلا ذريعا وبعضها أثبتت صمودا عجيبا، لقد كان العام الماضي تحديا قاهرا لهذه العملات التي ليست تحت سيطرة حكومة معينة، صمدت عملة البيتكوين ببراعة، وبعض العملات الأخرى، وهذا يعني أنها قد امتلكت شرعية كبيرة، وستنطلق في أفق غير مكتشف حاليا، وقد تغزو دولا كثيرة وجدا تجد في إدارة عملاتها صعوبات لا حد لها، دول مثل الأرجنتين مثلا، ستنتقل لهذه العملات العالمية "رغبا أو رهبا"، وسيكون المستقبل غريبا جدا لم نشهده أبدا ولا يوجد تاريخ مسجل له ولا اطراد معروف، لا أقول كن حذرا لكن سيكون السيل جارفا، ويجب أن تجد لك صخرة تصعد عليها، وتعزيز المهارات والتدريب بشأن التعامل مع هذه الأنواع من العملات والتعويضات عن العمل قد يكون حلا مثمرا، وسيبقى الذهب ذهبا، لكن لا أعرف كيف يمكن إعادته كعملة، والشعوب التي تنجح في إيجاد أسواق آمنة للانتقال السهل بين قوة العمل والعملات المشفرة والذهب ستكون أكثر الاقتصادات أمنا وثقة بين دول العالم. يتبع
مشاركة :