طالعتنا بعض الصحف في الأيام القليلة الماضية بخبر مفاجئ عن عجز متوقع في ميزانية مؤسسة البترول للخمس سنوات القادمة يبلغ 45 مليار دولار، بحسب رد وزير النفط على سؤال نيابي، من دون أية توضيحات أو تفاصيل عن أسبابه، رغم أهمية هذا القطاع الذي يعتمد عليه كمصدر دخل أحادي لميزانية الدولة منذ نشأتها، وتبلغ إيراداته ما يقارب 90 في المئة من إيرادات الدولة قاطبة. يأتي هذا بعد ثلاثة أشهر فقط منذ إعلان المؤسسة عن استراتيجية 2040. لذا، لا يمكن مرور هذا الخبر مرور الكرام مهما بلغت مستويات الانحدار في مجالات عدة مستويات غير مسبوقة، بل واجب على المختصين طرح هذا الملف للنقاش والبحث في أسباب هذا العجز من أجل معالجتها، خصوصا أنه لم يتبرع أي مسؤول أو قيادي في مؤسسة البترول للتعليق على هذا الخبر وتوضيح انعكاساته على استراتيجية المؤسسة ومشاريعها المستقبلية، فضلا عن الوقوف على مسبباته. الجدير بالذكر أن المؤسسة لم تستطع تحقيق هدفها الاستراتيجي الذي أعلنت عنه منذ أكثر من عشرين عاما، والذي كان يهدف إلى رفع قدرة البلاد الإنتاجية إلى ما يقارب أربعة ملايين برميل يوميا من النفط الخام بحلول عام 2020، إضافة إلى تعثرات وتأخيرات تتعلق بمصفاة فيتنام ومصفاة الزور. علاوة على ذلك، تحتفظ المؤسسة منذ سنوات عدة بإيرادات مالية وصلت إلى 7 مليارات دينار لم تقم بتوريدها إلى الهيئة العامة للاستثمار في مخالفة صريحة للقانون، وكانت نتيجة ذلك تحميل المؤسسة رسوم إعادة جدولة تبلغ «نصف مليار دينار». بناء على ذلك، تتزاحم الى الذهن مجموعة من الأسئلة المستحقة: ما حجم العجز فيما لو لم تحتفظ المؤسسة بالسبعة مليارات دينار لسنوات عدة؟ فيما تم استخدام تلك المليارات؟ من يتحمل مسؤولية رسوم إعادة الجدولة؟ الأهم من هذا مجتمعا هو ما حجم الفرص التي تمت إضاعة الاستثمار فيها نتيجة لعدم توريد تلك المليارات للهيئة العامة للاستثمار؟ باعتقادي أن هذه الحال التي وصلت لها المؤسسة تعتبر أكبر تقييم واقعي لأداء المؤسسة الحقيقي بعيدا عن المجاملات. فبدلا من أن يرى المواطن من هذه المؤسسة حلولا ورؤى جديدة تتعلق بكيفية مواجهة تحديات القطاع النفطي المحلية والعالمية، نصطدم بواقع مرير أقل ما يقال عنه انه فشل ذريع تتحمله قيادات هذا القطاع طوال السنوات الماضية في عدم تحقيق استراتيجية القطاع النفطي وبلوغ الحال بالمؤسسة إلى أن تعاني من عجوزات مستقبلية تجعلها تفكر إما في الاستدانة أو بيع جزء من أصولها لتغطية هذه العجوزات بحسب تصريح وزير النفط. مما يثير مخاوف حول مستقبل هذا القطاع في ظل هذه القيادات؟ أما الإشارة في إعلان المؤسسة عن استراتيجيتها 2040 إلى أن عدم قيام جهات حكومية بتسديد التزاماتها تجاه المؤسسة شكل تحديا على توفير السيولة، فهو تبرير غير منطقي ويخالف أبجديات إدارة المخاطر لأبسط المؤسسات، فضلا عن مؤسسة بحجم وتاريخ البترول. فهل من يدير إدارة المخاطر يظن أن جميع استحقاقات المؤسسة سوف يتم تحصيلها كاملة في موعدها؟ وهل هذا سلوك حديث على تلك الجهات حتى تتفاجأ به المؤسسة وتركن إليه في تبرير تحديات السيولة؟ علما أن تقرير ديوان المحاسبة لعام 2022-2023 كان قد دعا المؤسسة إلى «المتابعة المستمرة للوضع المالي لشركاتها التابعة والتزاماتها، والحرص على رفع معدلات السيولة النقدية في ظل التزاماتها تجاه الدولة والأطراف ذات الصلة، واستمرار الجهود المبذولة لتعظيم الإيرادات وإنجاز مشروعاتها الرأسمالية حسب خططها الموضوعة والمعتمدة وترشيد النفقات والتنسيق مع جهات الدولة بشأن تحصيل مستحقاتها». فيما يبدو أنه انتقاد مبطن لسياساتها المالية والآلية المتبعة لإدارة مخاطر تمويل مشاريعها الرأسمالية. كذلك يلفت الانتباه إصرار المؤسسة على وضع خطط استراتيجية طويلة تصل إلى عشرين عاما، يصعب معها القدرة على تقييم مدى نجاح تنفيذ الخطط وتصحيح أي انحراف قبل استفحاله. وعلى افتراض أن تحقيق تلك الأهداف يحتاج فعلا إلى مدة تفوق مدة الخطط المعتادة (3-5 سنوات)، فلماذا لا تجزأ الأهداف على مراحل، وبالتالي يستطيع مجلس إدارة المؤسسة تقييم أداء الإدارة التنفيذية؟ بناء على ما ذكرنا أعلاه، هذه مقترحاتنا لمعالجة الإشكاليات المتعلقة بالجانب المالي: • تفعيل مراقبة مجلس الإدارة لأداء الإدارة التنفيذية ومدى التزامها بتحقيق أهداف المؤسسة. • إعادة النظر في السياسات التمويلية وسياسات إدارة المخاطر من أجل معايير أكثر صرامة. • إعادة هيكلة المؤسسات التابعة من أجل خفض النفقات. • وضع خطط قابلة للقياس يتم تقييمها سنويا. • ضبط الهدر في النفقات خصوصا غير التشغيلية. في الختام، لابد أن يستشعر القائمون على هذه المؤسسة أهميتها القصوى لاقتصاد الدولة ككل، وأنها ليست كباقي الجهات من حيث التأثير على استدامة الاقتصاد، فالمسؤولية كبرى والآثار خطيرة إن لم يتم تدارك سوء الأداء. * أستاذ التمويل ومحاضر سابق في جامعة بورتسموث – المملكة المتحدة
مشاركة :