(1): قال أبو عبدالرحمن: ليس في فَهْمِ العقلِ الإنساني أحكامٌ عَقْلِيَّةٌ أَدْرَكَها العْقلُ بِملكاتِه الفكْرِيةِ ومصادِرِهِ الْحِسِّيَةِ؛ وذلك لسببٍ وحيدٍ؛ وهو أنَّ الإنسانَ يُوْلَدُ وليس يَمْلِكُ شيئاً من الفكرِ كما قال تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (78) سورة النحل؛ ولهذا تأَخَّرَ تكليفُ اللَّهِ الإنسانَ إلى بلوغِ الْحُلُمِ مِن حيثُ يبدأُ الفكرُ، وَيَنْتفِعُ العقلُ بِمُعْطَيات الحسِّ؛ بل شَمِلَتْ رحمةُ الله عبادَه؛ فَلَمْ يُحَمِّلْهُم المسؤولِيَّةَ إلا بعد اكْتمال الْعَقْلِ بُعَيْدِ بُلُوغِ الْحُلُمِ؛ وذلك هو بِدايَةُ قُوَّةِ الشبابِ، والْقُدْرَةِ على الجهادِ فيما بين السابِعَةَ عَشْرَةَ والثَّامِنَةَ عَشْرَةَ من الْعُمْرِ، ثم أَعْذَرَ الله من عباده بالتدريج مُنْذُ بلوغِ الأشدِّ عندما يَبْلُغُ العبد أربعين عاماً، ويَتحَّملُ شَدَّ الْمِئزر لِعبادَةِ ربه كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (15) سورة الأحقاف؛ فإذا طَعَنَ في الشَّيخوخةِ، وكان أُشَيْمِطَ زانياً، أو سِكِّيْراً، أو غيرَ مُؤْمِنٍ أصلاً، أو مُرْتَدّْاً بعد إيمان: ثم هداه الله إلى الإيمان وشروطه من الطاعَةِ للواجب والْمُسْتَحَبَّ، والتَّوَرُّعِ مِن انتهاك الْمُحَرَّمِ والْمَكْرُوه: فهو من النَّاجِين بلا ريبِ؛ ولكنْ ماذا سيكونُ عنده من عمل صالح يُعِدُّه ليوم التغابُنِ وقد ضَعُفَتْ قُواهُ الفكريةُ، وقلَّ نشاطُه الجسدي؛ فليستْ غايةُ الإنسان أنْ يدخلَ الْجَنَّة إنْ لَمْ يُعَذِّبه ربُّه على سَيِّئاتِه قَبْلَ إدْخالِه الجنة كحالِ عُصاةِ الْمُؤْمنين؛ هذا إنْ اقْتَرفَ شيئاً من الكبائر، ولَمْ يَتُبْ، أو أَصَرَّ على بعض الصغائِر عن غير جِهالَة.. إنَّ غايةَ الْمُؤْمِنِ يومَ التغابن أنْ يكونَ ذا مُلْكٍ كبيرٍ؛ فليست دَرَجَةُ الْمُقْتَصِدِ كدرجة أبي بكرٍ الصديق وعمر الفاروق.. إلخ رضي الله عنهم جميعاً.. ولا يطمَعُ بدرجةِ الرُّسُلِ والأنبياءِ عليهم صلواتُ ربي وسلامُه وبركاته إلَّا مَن سَفِه نَفْسَه كبعض حميرِ الْحُلُوْليِّين كذلك الي يرى درجَةً فُوَيْقَ الرسولِ ودونَ الْوَلِيِّ.. ولا تَنْسَوْا نعيمَ الدنيا؛ فالذي اِمْتَثَلَ: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (162 - 163) سورة الأنعام. نَعِيْمُهُ هو الحياة الطَّيبةُ التي وعدها الله عباده المؤمنين في حياتهم الدنيا؛ ونعيم هذا نعيمٌ لا يَغْبِطُ به أهْلَ النعيم الزائلِ مِن ذوي كنوز الذهب والْفِضَّةِ، وَبُعْدِ الصِّيت، وكثْرةِ الحشَمِ والخدم، والتكاثُرِ بالولد والْقبيلة، مع قُوَّة الْبَدَنِ، والرُّتُوعِ في النِّعَمِ من الْمَأْكلِ والْمَشْرَب والقصور الواسِعَةَ العالِية الْمُزَرْكَشَةِ بأجْملِ وأَغْلى أَنْوَاعِ الْحُلِيِّ، وطُوْلِ الْعمْرِ مع جحيمِ الْغَفْلَةِ عما يريده منه ربَّه خالِقُه ومالكه سبحانه وتعالى، وما نفعَ إبليسَ عَرْشُه وخيْلُه وَرَجِلِه، وإنْ عُمِّرَ عُمْرَ الدُّنيا.. إنَّ نَعِيْمَ الْعَابد بُشْرياتٌ من رَبِّه في نومه وَيَقَظَتِه، وملائكةٌ كرام عليهم سلامُ الله وبركاتُه يُبَشِّرُونه بأنهم أَوْلْياؤُه في الدنيا والآخرة بأمرِ ربهم، وهمُ لا يَعْصُونَ الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤْمَرُون، وكلُّ شُكْرٍ لله تتبعه زيادةُ خيرٍ؛ وأَعْظَمُ زيادةٍ تَشَرُّفُه بالْعُبُوْدِيَّة لربِّه؛ فلا يبقى في وِسْعِهِ إلا أنْ يَبْخَعَ نَفْسَه وتذْهَبَ حسراتٍ شفقَةً على عبادِ الله مُؤْمِنهم وكافِرِهم: يريد من الْمؤْمِن الاسْتِزَادَةَ من الْخيرِ، ويريدُ من الكافِرِ النجاةَ من عذاب الله. قال أبو عبدالرحمن: أعود الآن إلى موضوعِي الذي بَدَأْتُه، وهو أنَّ الإنسان إذا بَلَغَ الْحُلُمَ بَدَأَتْ معارِفُه تَنْمُو مُنْتفِعاً بِحَوَاسِّه، وليستْ عنده أحْكامٌ أَوَّلِيَّةٌ ألْبَتَّةَ؛ وإنما عنده مَلَكَاتٌ خَلَقَها الله له يَمْلِكُ بها تنظيمَ معارِفِه وعُلُوْمِه، ويَحْفَظُها، وَيَسْتَذْكِرها.. وكنتُ في صلفِ الشبابِ أقولُ بـ (الأفْكارُ الْأَوَّلِيَّةُ الْفِطْرِيَةُ) كما هو مَذْهَبُ الْعَقْلِيّْين؛ لأقْمَعَ فلسفةَ (إِيْمَا نِوْيلْ كانطْ) الإلحاديَّةَ.. قال الدكتور محمد فتحي الشِّنِّيطي في مقالته (مَبْحَثٌ في الفهمِ الإنساني لِـ (جُوْنْ لُوْكْ) كما في كتاب (تُراثُ الإنسانيةِ) 4/ 440 /ط الدارِ الْمَصْرِية للتأليف والنشر: ((يستنكر (لوك) رأياً شاع بين عددٍ من الْمُفكرين، ومِن الواضح أنه يشير إلى (ديكارت) والديكارتيين وإلى أفلاطونِيِّيْ (كمبردج) مفاده: أنَّ ثَمَّةَ مبادئَ فطريةً من قَبِيل أنَّ الشيئَ لا يناقِضُ ذاته [يريد نَفْسَه]، وأنَّ الكلَّ أكبرُ من الجزء.. والحجةُ التي يحتجون بها على فطريةِ معرفتنا بهذه الْمَبادئ: هي أننا جميعاً نوافق عليها، ولئن كانت الموافقة الْكُلِّيَةُ ليست في ذاتها [يعني في نفسِها] دليلاً على فِطْرِيَّتِها؛ فالثابت مع ذلك أنَّ هذه الموافقةَ الكليةَ غيرُ مسلَّمٍ بها؛ ذلك أنَّ عدداً كبيراً من أفراد الجنس البشري لم يَسْبقْ لهم أَلْبَتَّةَ أنْ تصوَّروا مثلَ هذه المبادئ كالأطفال والبدائيين.. ويمضي بنا هذا إلى نقطة أخرى؛ فقد يُحتجُّ بأننا قادرون على الأقل على معرفة هذه المبادئَ بالقوة؛ فإذا كان هذا يعني أننا نملك من البداية قدرةً على معرفتها: فإنَّ (لوك) لا يتعرض على ذلك [الصوابُ: لا يعْترِضُ على ذلك (بعينٍ مُهْمَلَةٍ ساكنة قبل التاءِ ذاتِ الثِّنْتَيْنِ مِن فوق)، أو لا يَتَعَرَّضُ إلى ذلك (بعين مهملة مفتوحة قبل التاء ذات الثنتين مِن فوق)، وبـ (إلى) بدلاً من: على، أو لذلك]؛ إذْ يقر بالقدرات الطبيعية أو المَلَكات؛ أما إذا كان معنى هذا أنَّ ثَمَّةَ قضايا مضمرةً في الذهن من قَبِيل (الشيئ هو ذاته [أي هو نفسُه]، ولكنها [الصواب: وَلَكِنَّهُ؛ لأنَّ الْمُرادَ ضميرُ الشَّأْنِ]: لم يصرح بها بَعْدُ.. كان رد (لوك) أنَّه ليس ثمة قضيةٌ يمكن أنْ يقال: إنها في الذهنِ الذي لَمْ يَعْرِفْها ،وليس على وعيٍ بها؛ فإذا كان المقصودُ بعد ذلك أننا سنعرف هذه المبادئَ حين نَْتَدلُّ: يجيب (لوك) بأننا سنعرف أيضاً أنَّ 7+5= 12 حين نستدلُّ، ولكن لا أحد يفترض [أنَّ] هذه معرفةٌ فطرية، ويضيف (لوك) فضلاً عن هذا: أننا لا نعرف هذه المبادئَ بالاستدلال مع أننا نَسْتَخْدِمُها فيها [الصواب: فيه.. أيْ في الاستدلال]؛ فإنَّ من يُجَشِّم نفسَه مشقةَ النظر بشيىءٍ من الانتباه في عمليات الفهم: سيجد أنَّ هذا القبول الحاضر للذهن لبعض الحقائق [قال أبو عبدالرحمن: هذا أسلوبٌ أعجميٌّ؛ والأفصح: أنَّ هذا القبولَ لبعضِ الحقائقِ الحاضِرَ في الذهن]: لا يعتمد على سِجِلٍّ أصليٍّ في العقل أو استخدامه [الأفصح: أوْ اِسْتِخْدَامٍ] (أي في الاستدلال)؛ بل على ملكةٍ للذهنِ متميزة تماماً منهما؛ وهي ملكة الحدس كما سيتضِحُ لنا ذلك فيما بعد.. ليس في مستطاعنا إذن أن نتَّخذ من الموافقة الكلية - على فرض قيامها - حجةً على فطرية معرفةِ المبادئ، كما أنه ليس من الممكن أيضاً أنْ نطلب لهذه المعرفة أية [الصواب: أيَّ] أوَّليةٍ في الزمن؛ فمن الواضح أنَّ معرفةَ المبادىءِ من حيث هي مجردة: تأتي فيما بعد؛ فإحساس وتمييز الأحمر من الأبيض كلُّ ذلك سابق على معرفتنا بمبدإِ عدم التناقض؛ فمن الغريب أنْ يوصف هذا المبدأُ بأنه مطبوع في العقل أصلاً.. بيد أنَّ الحجة ليست خاصة بالسبق الزماني؛ بل بالضرورة المنطقية؛ فالمبادئُ ضروريةٌ ضرورةً منطقيةً وواضحة بذاتها [الصواب واضحةً - بدون واوين في نفسِها]، ومانكاد نفهم ما تعنيه الكلمات في القضية (الشيىءِ هوذاته) [أيْ هو نَفْسُه] حتى يتعيَّن تصديقُها؛ فهل مثل هذه الضرورةِ، وهذا الوضوحِ الذاتي: يُفَسَّرَانِ فقط بالأخذ بأن المبادئَ مطبوعةٌ فطريَّاً في الذهن ؟.. يرى (لوك) أنَّ من المسلَّم به أنَّ المبادئَ واضحة بذاتها [أيْ بنفسها]؛ ولكنَّ الأمرَ كذلك في حقائقَ أخرى كثيرةٍ لا تُعْتَبُر حقائقَ فطريةً.. مثلُ ذلك: الحقائقُ الرياضية؛ فسواء أكانت هذه الحقائق ضرورية أم واضحة بذاتها: فليس هذا دليلاً على فطريتها.. إنَّ المبدأَ (الشيئ هو ذاته) [قال أبو عبدالرحمن: كلُّ تعبيرٍ بالذاتِ حَوِّلْه إلى المعنى الصحيح لُغَةً؛ وهو النَّفْسُ] مبدأٌ ضروري مسلَّم به، لا لأنه مبدأ فطري؛ بل لأنَّ اعتبارَ طبيعة الأشياء المشمولة في هذه الكلمات لا يجعلنا نفكر فيها على نَحْوٍ آخر.. إننا نتقبلها بالحدس كما نتقبل كون 2+2=4.. يخلص (لوك) من هذا بأن [الصوابُ: بأنه؛ إذْ الْمُرادُ ضميرُ الشأْنِ] ليس ثمة مايظهر أنَّ المبادئَ المستخدمةَ في التأمل كمبدإِ الهوية ومبدإِ عدم التناقض: تُعْرف معرفةً فطرية؛ فماذا يكون الأمر بالنسبة للمبادئِ العملية التي يُدَّعَى كونُها فطرية!.. يبدأ (لوك) بالتساؤل عما إذا كان هنالك مبادئ من هذا القبيل نتفق عليها جميعاً؛ فيجد [أنَّه] من الضروري التسليمُ بوجود بعض ميول مشترَكةٍ في الجنس البشري؛ فمن المشترك عند الناس جميعاً (الرغبةُ في السعادة، وكراهة الشقاء).. بيد أنَّ هذه نزعاتٌ وليست انطباعاتٍ للحقيقة في الفهم.. أما فيما يَخْتَصُّ بالمبادئِ الأخلاقية: فهنالك اتفاقٌ أكبرُ على المبادئِ التأملية منه عليها [أي الاتِّفاقُ على المبادئِ التأمليَّةِ أكْبَرُ مِن الاتِّفاقِ على المبادئِ الأخلاقيةِ]؛ وبالتالي فإذا كنا قد تبينَّا أنَّ هذه الأخيرة ليست فطرية: فالأَولى [أنها] ليست بالأحرى كذلك.. ومن غاية الوضوح أنَّ منبعَ مبادِئنا الأخلاقية: هو عقلنا، أو التربيةُ التي نتلقاها من الآخرين، أو آراء الأصدقاء المحيطين بنا، وعُرْفُ البلاد التي نعيش فيها.. ويعتقدُ (لوك) أنَّ ثمةَ قوانينَ للأخلاقية [أيْ الْمبادِئَ] ثابتةٌ وسرمديةٌ [الأفْصَحُ: بدون واوٍ قبل السينِ المهملة]، ولكنها لا تُعْرَفُ بأية [الصواب: بأيِّ] معرفة غامضة فطرية وهي ليست مغروسة ابتداء في الأذهان.. ومن الأكيد أنه إذا كان الناس جميعاً قد عرفوا المبادئَ الأخلاقية معرفةً فطرية: لَما شاهدنا كثيراً من الأمم تَخْرِقُ بعضَ هذه المبادئِ أو معظمَها، ولا تخجل من ذلك.. وإلى لقاءٍ مَعَ مناقَشَةٍ لهذه النصوص بعد عنائي في تقويم هذا الأسلوب الأعجميِّ بما هو بين هذين المعقوفين[ ] في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى، والله المستعان. مقالات أخرى للكاتب الْأَمَانَةُ مَعَ اللُّغَةِ أَمَانَةٌ مَعَ شَرْعِ اللهِ: (4) الْأَمانَةُ مَعَ الُّلغَةِ أمانَةٌ مَعَ شرعِ الله الْأَمانَةُ مَعَ الُّلغَةِ أمانَةٌ مَعَ شرعِ الله (2) الأمانَةُ مَعَ اللُّغَةِ أمانَةٌ مَعَ شَرْعِ الله: ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ في جَوْفِهِ (5-5)
مشاركة :