قال أبو عبدالرحمن: في السّْبْتيَّةِ السابِقَةِ تناولتُ صَدْراً مِنَ فَلْسَفَةِ (جون لوك) عن الأفكار الفِطْرِيَّةِ؛ التي هي (الْفَهْمُ الإنْسَانيُّ الْمُشْتَرَكُ) لتلك الأفكارِ الفطرية الأَوَّلِيَّة.. وعلى قِصَرِ النَّصِّ الذي أوْرَدْتُه عانيتُ جُهْداً كبيراً؛ مِن أجْلِ تخليصِه من قَتَامِ الأسلوب الأعْجمِيِّ بسبب التَّرْجميَّةِ الحرفية، والآن أقف مع ذلك النَّصِّ بَعْضَ الوقفاتِ: الوقفةُ الأولى: أنَّ الفلاسِفَةَ الواردةُ أسماؤهم غيرَ (جون لوك) مِن الدِّيْكارْتِيّْيِيْنَ والأفلاطونِيّْيِيْن والتَّجْرِيْبِيّْيِن والنَّقْدِيّْيِيْنَ: سَأَدَّخِرُ تحقيقَ فلْسفتهم لكتابي الفخم (الأعمالُ الكامِلَةُ) إن شاء الله تعالى، وأكتفي الآن بتحقيق فلسفة (جون لوك)؛ لأنَّ الأفكار الفلسفية كثيرةُ التَّعْقِيْدِ، عسيرةُ الفَهْمِ؛ فلابد مِن التَّفَرُّغِ لفلسفة كل فيلسوفٍ وْحدها، ثم تكون المقارنَةُ بعد ذلك. والوقفةُ الثانية: أنَّه لا وجودَ لأفكارٍ في الْعَقْلِ (وَدَعْكَ مِن كونها دالةً على موجودٍ حقيقيِّ في الآفاق أو في الأنفس مُتَحَقِّقَةَ المدلول، أو غيرَ مُتَحَقِّقَتِه)؛ بل الأفْكارُ نتيجَةُ التفكيرِ، ولا تفكير إلا بعد تجاوُزِ مَرْحَلَةِ الوعيِ التِّلْقائيِّ كالْتِقامِ الطِّفْلِ ثَدْي أُمِّه، وبكائه مِن أخذِ غيرِه تمرةً مِن تَمْرَتين مَعَه، وسرورِه وضحكه مِن إضافَةِ تَمْرَةٍ إلى تَمْرتيه؛ وبكاؤه وضحكه وسرورُه لَمْ يكن بَعْدُ عن تفكيرٍ بأنَّ الْجُزْءَ بعضٌ من الكلِّ.. ولا تَفْكِيْرَ مُعْتَدّْاً به إلا ما بين التِّسع والعشر مِن العمر حيثُ تَتَوَافَدُ شواهِد الْحِسِّ.. وَرَحْمَةُ الله الواسعةَ أَرْجَأت تكليفَ عبادِه بالشرائعِ؛ وَتَحْمِيْلَهُمْ الْمَسْؤُولِيَّةَ إلا بَعْدَ بلوغِ الْحُلُمِ؛ وهذا غيرُ تكليفِ مَنْ لم يبلغْ الحلم من أبناء عشرٍ كضربِهم على الصلاة لِعشرٍ؛ فهؤلاء لا عقوبة عليهم في الآخرةِ، وضَرْبُهم الرفيقُ غيرُ الْمُبَرِّح كتأديبهم لشؤونهم الدنيويةِ؛ فذلك تزكيةٌ لهم، وتهْيِئَةٍ لهم؛ ليكونوا على الاستقامة. والوقفة الثالثةُ: أنَّ (جون لوك) أصاب في واحدة، وأخطأ في أخرى.. أصاب عندما حكم بأن العقلَ صحيفةٌ بيضاءُ والْحِسُّ ينقش فيها معارِفَه؛ فَسمَّى ما يَنْقُشُهُ الحسَّ معارِفَ؛ ثمَّ حكمَ بأنَّ ذلك غيرُ مَعارِفَ، وسأناقشُ ذلك إنْ شاء الله تعالى فيما يُسْتَأنَفُ من كلامه خلال أبحاثي عن الفهم الإنساني المُشْتَرَك؛ وبهذا النَّقْشِ الْحِسِّيِّ تَحَرَّرْتُ من رِبْقةِ التقليدِ لِلْإمام الْحَبْرِ أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى، والمأسوفِ عليه أبي الفلسفةِ الحديثة (ديكارت)؛ وحكمتُ وأنا على يقين مُتَّكِلاً على الله: أنه لا يوجد في العقل أفكارٌ فِطْرِيةٌ إلا بعدَ الإمْدادِ من الحسِّ في الأنفسِ أو الآفاق؛ وإنما الموجودُ في الْعَقْلِ بفطرة الله سبحانه وتعالى الذي خلق العقولَ: ملكاتٌ تستقبِلُ بها إمدادَ الحسِّ بوعي ودِقَّة؛ وهنَّ: ملكةُ الحفظِ، وملِكَةُ التَّذَكُّر، وملكةُ التَّفَكُّرِ التي تَلْتَقِطُ عطاءَ الْحِسِّ كما هو؛ وبهذه الملكاتِ حصلتْ قوانين العقل الثلاثةِ التي يُشْتَقُّ منها كلُّ قانونٍ عَقْليٍّ فَرْعِيٍّ؛ وهي (قانونُ الْهُوُيَّةِ) الذي يُشْتَقُّ منه القانونانِ الآخران؛ لأنه يَعْنِيْ الشيئَ كما هُوَ، ويعني الْفَوَارِقَ بين هُوِيَّةٍ وهُوِيَّةٍ، ويعني أَوْجُهَ اللقاء بينهما.. والقانونُ الثاني قانونُ ارتفاعِ أَحَدِ النقيضين، وإِحَالَةِ اجتماعَهَما إذا أُرِيْدَ حقيقَةُ الكلامِ لا مَجازُه؛ ويُسَمَّى قانونَ الثالثِ الْمَرْفُوْعِ.. والقانونُ الثالثُ قانونُ إحالَةِ ارتفاعِ الأضدادِ كُلِّها، وجوازِ ارْتِفاع اثنين فأكْثَرَ مِثْلِ ارتفاعِ الركوعِ والسجود والاستلقاء؛ لجواز أن يكونَ يركضُ،أو يكونَ جالِساً جِلْسَةَ الْقُرْفصاءِ. والوقْفَةُ الرابعةُ: أنَّه يوجدُ في حياةِ الناسِ رُؤْيا المنامِ، و(التَّلْبَاثِيُّ)، أو الحاسَّةُ السادِسَةُ؛ فإن تَحَقَّقَ ذلك فهو إيراءٌ مِن الله بواسِطَةِ مَلَكٍ كريمٍ: إما تبشيراً، وإما إنْذاراً وتحذيراً؛ والإيراءُ الأخيرُ أكْثَرُ ما يكون للكافِر، وقد يكونُ للمؤمِن لِخَلَلٍ في عبادتِه، أو لارتكابِه مَعْصِيَةً عن غير جهالةٍ بحرمتها كالإصرار على بعضِ الصغائِر، أو ما فَوْقَها وهي دون الكبائرِ السبعِ الموبقات كالغيبةِ والنَّمِيمَةِ.. وأما الموبقاتُ دون الشِّرك بالله (الذي يُحْبِطُ الله به كلَّ عَمَلٍ، ويُحَرِّمُ به دخولَ الجنَةِ، ويُوْبِقُ به الكافِرَ في النار) كَقَتْلِ النفس أو النفوسِ بغير حقٍّ؛ فقد توعَّدَ اللهُ جانِيه بالخلودِ في النارِ إنْ لم يَفْدِ نفْسَهَ في دنياه، ويُسَارِعْ إلى فِعَلِ الخيراتِ؛ وأَعْظَمُ الْفِداءِ أنْ يُسَلِّم نفسَه لِلقِصاص؛ فقد يُحقِّقُ الله وعيده بابتلائه بفتنةِ الحياةِ فَيَرْتَدَّ،أو بِفتنَةِ الممات؛ فيموتُ مُمْتَنِعاً عن الشهادتين.. وعلى أيِّ حال فذلك الإيراءُ لَمْ يَحْصُلْ للإنسانِ بتفكيرٍ،وإنما أحْضَرَ الله له بَصَرَه فرأى الرؤيا، فحفظها بعد يقظته؛فإنْ لَمْ يَتَحقَّقْ الإيراءُ في الواقع فهو مِن حديث النفس. قال أبو عبدالرحمن: وأعودُ الآن إلى تفسيراتِ (جُوْنْ لُوْكْ).. قال كما في تراث الإنسانيةِ ص 441-444 عن الأفكارِ الْفِطْرِيَّةِ: إنها تأتي من التجرِبة، فبالملاحظةُ التي نُديرها على الموضوعات الخارجية المحسوسة وحول [الصواب بدون واو] النشاط الداخلي للذِّهن نَتَزَوَّدُ [هذه الترجمة قلقة؛ ولعلَّ الصوابَ تُزَوِّدُنا] بالإْدراكِ والتفكير؛ وهما الركنان اللذان يرتكز عليهما النشاط العقليُّ.. وبناءً على ما تقدم فهنالك مصدران أساسيان لجميع الأفكار التي تشكل وحدها دون غيرها خاماتِ النشاط العقلي بأسره: أولاً: الإحساسُ الخارجيُّ؛ فالحواسُّ تنقل إلى الذهن إدراكاتٍ عديدةً متميزة تُميِّز الطرائق المتنوعة التي أثْرَتْ بها الموضوعات الخارجيةَ[ الصوابُ: الخارجَة بدون ياء (ذات ثنتين من تحت) قبل الجيم] عليها.. ومِنْ ثَمَّ تصل إلينا أفكار الأصفر والأبيض والحار والبارد والصلب واللين والمر والحلو؛ وهي ما ندعوه صفاتٍ حسيةً تُشَكِّل في الذهن الإدراكات.. هذه الإدراكات هي مصدر معظم الأفكار التي لدينا؛ وهي تعتمد تماماً على الحواس.. هذه الإدراكات هي الإحساس الخارجي. ثانياً: الإحساس الباطني، ويتمثَّل في ذلك النشاطُ الذي يمارسه الذهن بعملياته التي تدور حول الأفكار التي انتقلت إليه من الحواس: من إدراك، وتفكير، وشكٍّ، واعتقاد؛ وينجم عن ذلك بعضُ انفعالاتٍ مِثْلُ الرضا والضيق.. ونستقبل من هذا النشاط أفكاراً متميزة تميز الأفكار التي نستقبلها من الموضوعات الخارجية التي تؤثر على حواسنا.. مِثْلُ هذه الأفكار لا علاقة لها بالإحساس الخارجي؛ فهي تنشأ مِنْ ثَمَّ عن الإحساس الباطني.. هذان هما المصدران الوحيدان اللذان تأتي منهما الأفكارُ البسيطة؛ وليس في الذهن أدنى فكرة لم تأت إليه عن أحد هذين المصدرين؛ وإذْ تنجم معرفتنا عن مصدرين متميزين: (الإحساسِ، والإدراكِ): نرى (لوك) يتخذ موقفاً مختلفاً تماماً عن موقف المدرسة الحسية، فبينما يذهب (جسندي) و(هوبز) (وهما مفكران سابقان عليه) و(كاندياك) و(هلفشيوس)، وهما متأخران عنه؛ [فيذهبان] إلى أنَّ انطباعات الإحساس هي المصدَرُ النهائي لكل ما لدينا من معرفة؛ ويتميز (لوك) بالمصدر الثاني للأفكار؛ وهو الإحساس الباطني, أو الإدراك المتمثل في نشاط الذهن؛ وبذلك تكون نظريتُه في مصدر المعرفة نظريةً تجريبية وليست حسية على نحو ما نجد عند أسلافه وأخلافه من الْحِسِيّْيِيْنَ. وقال ص 444: ((يُعْتبر الباب الثاني من المبحث محاولةً لإحصاء الأفكار البسيطة؛ وهي أفكار الإحساس؛ وأفكار الإدراك، وردُّ أفكارنا الأخرى مهما تكن مركبة إلى هذه الأفكار البسيطة؛ فأفكار الإحساس بعضها يأتي إلى الذهن من حاسة واحدة مثل الألوان والأصوات والأذواق والروائح والحرارة والبرودة.. أما الأفكار التي نحصل عليها من أكثر من حاسة فهي الحيِّزُ أو الامتداد والشكل والسكون والحركة.. وثَمَ أفكارٌ تنجم عن نشاط الذهن كاللذة أو البهجة والألم أو الضيق والقوة والوجود والوحدة.. هذه الأفكار البسيطة هي خامات معرفتنا، وحين يتزود بها العقل تكون له القدرة على تكرارها والمقارنة بينها وتوحيدها بطرائقَ لا تكاد تنتهي؛ ويمكنه بذلك أنْ يُشَكِّلَ منها أفكاراً مركبة جديدة؛ ولكن ليس في وسع العقل على أي نحو من الإنحاء أن يبتكر أو يشكل فكرة واحدة بسيطة جديدة في الذهن لا تأتي من المصدرين اللذين أشرنا إليهما.. إنَّ قدرة الإنسان في هذا العالم الذي يكتنفه لا تتخطى تشكيل الخامات المادية التي في متناول يده تشكيلاً جديداً دون أنْ يكون في وسعه خلق ذرة من مادة جديدة أو أن يُعْدم [الأبلغُ من أجل السياق: أوْ إعْدَامَ] ذرة من مادة قائمة.. وكذلك شأن عقله يشكل من الخامات ما يروم، ولا يسعه أن يخلق خامة أو يعدم خامة موجودة، وإلى لقاءٍ في السبتية القادمة؛ لمناقشةَ ما سبق، مع إيرادِ غيرِها إن شاء الله تعالى، والله المستعان. مقالات أخرى للكاتب الْفَهْمُ الإنْسَانيُّ الْمُشْتَرَكُ : الْأَمَانَةُ مَعَ اللُّغَةِ أَمَانَةٌ مَعَ شَرْعِ اللهِ: (4) الْأَمانَةُ مَعَ الُّلغَةِ أمانَةٌ مَعَ شرعِ الله الْأَمانَةُ مَعَ الُّلغَةِ أمانَةٌ مَعَ شرعِ الله (2) الأمانَةُ مَعَ اللُّغَةِ أمانَةٌ مَعَ شَرْعِ الله:
مشاركة :