جائزة القدس تكشف كيف ضحك مثقفو الغرب من العرب

  • 1/30/2024
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الفكر والأدب والإبداع عموما هي في جوهرها مواقف إنسانية، ومبادئ جوهرية هدفها الإنسان والحياة أينما كانا، لكن من الغريب والمثير للجدل على الدوام أن من يؤسس في فنه وأفكاره وأدبه لهذه المبادئ الإنسانية، نجده أول من يتخلى عنها إذا نال جائزة أو استقطبته سلطة ما. صدقا، لم نجد ما يعادل مفردة “الضحِك” دلالة في الترميز عما يشيه هكذا عنوان صادم حقا لمن يريد أن يفهم، وحيث أن فعل ضَحِكَ قاس جدا هذه الأيام، فلا يمكن أن يحمل إلا معاني السخرية والخداع والاستهزاء والسادية، تماهيا مع ما اعتقدناه بأن شر البلية ما يضحك، وامتدادا إلى اقتناعنا بأنه قد فشلت كل محاولات النجاة بأنفسنا من أنفسنا أولا، ثم من تاريخنا، حتى هزائمنا المتواصلة على امتداد 75 عاما، ونحن نرى ما جرى ويجري في فلسطين اليوم، تحت مظلة اللامبالاة التي يبدو أنها أراحت وتريح مثقفي الغرب (فلاسفة وأدباء وعلماء) كل تلك الفترة من عناء الموقف والكلمة الحرة في بلاد “الحرية والديمقراطية”. لا يخفى عن القارئ العربي المستنير أن الغرب دخل إلينا وأقام سرادقاته الناشطة بادئ الأمر ترويجا لأطروحاته الفكرية والأدبية حتى تركزت في صلب هويتنا المعرفية منذ أكثر من قرنين من الزمن وقابلناها بحسن النية، رغم امتلاء المشهد بمن فرضها علينا بالتلازم مع منظومات الاستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي، من مستشرقين يمثلون ثقافاتهم الأصلية، أو هم معجبون بالشرق محابون له أو ممالئون اخترعوا لنا مصطلح “عصر النهضة” بما يناسبهم، وسوقوه في ظل ضعف النظام السياسي العربي. مثقفون متناقضون ◙ بعد السابع من أكتوبر لا يمكن للعرب ألا يعيدوا بلورة قناعاتهم وتكوين موقفهم الثقافي من العالم الغربي كان احتلال فلسطين امتدادا لهذا السياق، أحد وجوهه اختراع اليهود الصهاينة جائزة القدس منذ العام 1963، التي تمنحها بلدية القدس، تلميعا لصورتهم وذراعا ثقافية تنظّر وتروج للاحتلال في الحواضر الغربية التي كان من المؤسف أن طائفة وازنة من مفكريها وكتابها وعلمائها، ومن جنسيات مختلفة بين أوروبا وأميركا، وممن عدهم العرب نماذج نوعية وقامات فكرية/ ثقافية مثالية لعقود، هؤلاء، هكذا وبكل بساطة، حضروا إلى فلسطين المحتلة ليستلموا تلك الجائزة بعد منحهم إياها، ولم يلتفت منهم أحد إلى قدميه حيث يقف على أرض محتلة سحل شعبها وقتل ونكل به، فيما هجر من بقي على قيد الحياة لاجئا إلى بلاد القسوة والانتظار والأمل البعيد بالعودة إلى وطنه. لم يكترث منهم أحد لشعور فلسطيني أو عربي، مثقف، مفكر، شاعر وأديب، أو عالم، ولا لحساسية الملايين من العرب والفلسطينيين، ماذا لو اكتشفوا (وقد اكتشفوا) التناقض الفاضح بين ما قالوه وما كتبوه ونشروه حول العالم من معاني “المبادئ الإنسانية” و”المحبة” و”السلام” و”الأخوة العالمية” وثقافة التلاقي ورفض الاحتلال، إلى المثاقفة والإصلاح والتطور والتسامح. ننظر إلى الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل داعية السلام والاشتراكية و”المناهض للحرب وللإمبريالية” عدو ستالين وهتلر وضد تورط أميركا في فيتنام، ونسمع للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1990، “معارضا شرسا للفاشية” بأشكالها أينما وجدت، ونتأمل في الروائي البيروفي ماريو بيدرو فارغاس يوسا الذي نال أيضا جائزة نوبل عام 2010، وتأييده للإصلاحات الاجتماعية والسياسية ولحقوق الإنسان. ◙ الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل داعية السلام والاشتراكية و"المناهض للحرب وللإمبريالية" عدو ستالين وهتلر وضد تورط أميركا في فيتنام ◙ الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل داعية السلام والاشتراكية و"المناهض للحرب وللإمبريالية" عدو ستالين وهتلر وضد تورط أميركا في فيتنام نتعمق أكثر مع رؤى الفرنسية سيمون دي بوفوار المفكرة والفيلسوفة التي ناصرت حقوق المرأة وقاومت اضطهادها وكان الإنسان بأزماته الوجودية همها الكبير في الحياة، ثم نفكر في مبادئ الروائية الأميركية سوزان سونتاغ وهي تناهض حرب بلادها ضد فيتنام، إلى الكاتب والروائي الياباني هاروكي موراكامي رمزا كبيرا للأدب “الإنساني”، والكاتب والناقد الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس أبرز كتاب القرن العشرين الداعي إلى الديمقراطية والمناهض للدكتاتورية والاضطهاد السياسي. نذكر مثلا المؤلف المسرحي الروماني/ الفرنسي يوجين يونيسكو الذي تعمق في مآسي الإنسان وحارب الأيديولوجيات الدينية، إلى أشعيا برلين، غراهام غرين، ميلان كونديرا، إرنستو ساباتو، ستيفان هايم، آرثر ميللر، أنطونيو مولينا، الألباني إسماعيل قادري، كارل كناوسغارد، وغيرهم كثيرون. نقول انظر وحلل وتأمل وتعمق وتفكر أيها العربي في التناقض الرهيب بين مبادئ هؤلاء الإنسانية، وتصرفاتهم التي أكدت أن فلسطين القضية والوطن والنضالات والشهداء، بحر الدماء ومساحات المجازر والإبادة لعقود طويلة، تأتي كلها في آخر اهتماماتهم، رافعين نخب إسرائيل وهم يتلقون جائزتهم العتيدة بكل تودد وحبور وامتنان، على أرض احتلها من يكرمهم باسم الثقافة والمدنية والحضارة الإنسانية. لم يخجل هؤلاء وربما لم يشعروا، مجرد شعور بسيط وفطري، بأنهم يعاكسون حركة التاريخ ويتواطأون على تاريخ وجغرافيا الفلسطيني مع منظومة عَقَدية كاذبة تدعي الانفتاح على الفكر وتقدير الثقافة العالمية، ولا يرون، كلهم، عبئا ولا عيبا ولا مثلبة أخلاقية في العبور من أقاصي الأرض وجهاتها الأربع تلبية لدعوة منظومة “ثقافية” يعلمون جيدا أنها صنيعة احتلال ذي عقيدة دينية أصولية المفترض أن تلفظها علمانيتهم ومدنيتهم التي يفاخرون بها في كل حين وحال. لا يمكن للغفلة أن تتسلل إلى عقول هكذا مثقفين عما جرى ويجري من المجازر والتنكيل وسجن النساء والأطفال والرجال والشيوخ، وأساليب الخداع والمؤامرة والكراهية، كراهية العرب والمسلمين تحديدا، ولا يمكننا التصديق بأنهم لم يسمعوا بأن هناك شعبا تم طرده من المكان الذي يقفون فيه بكل قساوة وإجرام ودموية وأن ما يرونه من جمال ومحبة وتسامح في احتفال الجائزة هو صورة زائفة لحقيقة أن هناك معتديا ومعتديا عليه، ظالما ومظلوما. ◙ المؤلف المسرحي الروماني/ الفرنسي يوجين يونيسكو الذي تعمق في مآسي الإنسان وحارب الأيديولوجيات الدينية ◙ المؤلف المسرحي الروماني/ الفرنسي يوجين يونيسكو الذي تعمق في مآسي الإنسان وحارب الأيديولوجيات الدينية تاريخيا، أثبت مثقفو الغرب أننا خارج حساباتهم الفكرية، ولطالما رأوا أن فلسفاتهم ومبادئهم خارج نطاق عقولنا وأكبر من فهمنا وأوسع من وعينا، وأننا خارج تاريخ سيرورة الثقافة العالمية، وأننا مجموعة من المستهلِكين السذج الذين يدفعون لشراء كتبهم والاحتفاء بهم، فيما هم غير ممتنين طبعا وهم يلعبون معنا لعبة الإيهام بأننا نقوم بواجبنا الثقافي لا أكثر ولا أقل وقد نتمكن من فهمهم يوما ما، في عملية استلاب قاس جدا وتغريب عبثي ولامبالاة بكل ما قاله وكتبه العرب، كل العرب، من المحيط إلى الخليج. فهم متأخر ما أثبتته حرب غزة اليوم أن مثقفي الغرب لعبوا معنا لعبة التثاقف المزيف منذ عقود، فأعملوا فينا تشويها وتسخيفا وتقليلا من أمرنا قولا وفعلا، فلم يروا فينا بشرا (وعذرا لقساوة الكلمة أيضا لكنني أعنيها بالمباشر) ولا أناسا مكتملي الكينونة في العقل الواعي واللاواعي، والفكر والهوية، في الروح الحضارية والأصالة ومدنية الحداثة. لقد ضحكوا علينا، وعاملونا بازدراء واحتقار ولم يقتنعوا بنا، لا مفكرين ولا مثقفين ولا أدباء ولا فنانين ولا فلاسفة، فما رأينا ولا سمعنا ولا وجدنا ولا صادفنا أن واحدا منهم تأثر أو استلهم أو أخذَ منا فكرة واحدة، رأيا، نظرية، مفهوما، مصطلحا، كتابا، معجما، بل بؤرة استهلاكية لأي شيء يقولونه مهما كان تافها، يقهقهون منا في سرهم، من بلاهتنا ونحن نصدق كل ما نظروا ودفعوا إلينا من تهيؤاتهم الفكرية، نحاول فهمها ولا نفهمها. ولكنْ ما الوازع الأخلاقي الذي يمنع أن نكون حقول تجارب لنجاح أو فشل نظريات وفلسفات هؤلاء التي صدروها إلينا؟ والتي، ويا للغرابة، لم تنجح يوما في حل مشاكلنا الوجودية بذريعة أننا لم نجِد استخدامها؟ لم يقم مثقفو الغرب وزنا لأي عربي ولكل عربي، بل احتقروه وهزئوا به سرا، وعلانية إذا اضطروا إلى ذلك، فهم معنا: واعون أذكياء، مناورون، محاورون مجادلون، يفلسفون الأمور وينظرون بصيغة الأمر والنهي والشمولية والفوقية ووعي المواطن “المثالي والنوعي” المنتمي إلى العالم الأول في مواجهة مواطن العالم الثالث المتخلف البليد. ◙ مثقفو الغرب لم يرفضوا جائزة بلدية القدس، لا كلهم ولا بعضهم ولا أحدهم، حين كان يمكنهم رفضها إنهم يبيعوننا كلاما وأوهاما وأحلاما مشروطة بطاعتهم الفكرية التي لا خطأ فيها، لكنهم مع الآخر، الإسرائيلي، بسطاء جدا، وديعون مسايرون حتى السذاجة والتهريج، يختارون كل كلمة في مخاطبته ويخافونه في أية زلة لسان، ويقفون لخاطره، لأنه الإسرائيلي: عدوه عدو وصديقه صديق. لم يرفض مثقفو الغرب جائزة بلدية القدس، لا كلهم ولا بعضهم ولا أحدهم، حين كان يمكنهم الاعتذار عن قبولها بكل أدب تأكيدا لانسجامهم مع أنفسهم، أقله كما فعل كاتب أيرلندا الشهير جورج برنارد شو الذي رفض جائزة نوبل للآداب عام 1925، لا لشيء إلا لأجل الانتقام من محكمي الجائزة إذ منحوها سابقا ولسنوات لمن لا يستحقونها ولا يرتقون إلى مستواه الأدبي كما يرى. ربما هي أخطاؤنا التاريخية، قراءتنا التعسفية لثقافة الغرب ونحن نقدم حسن النية في التعامل معها، وها إننا اكتشفنا أن هذه الثقافة مسألة خطيرة، أدخلتنا إلى التبعية لأصحابها منذ زمن طويل، ومن بقي على قيد الحياة منهم اليوم، مثقفا مفكرا أديبا، لا يخجل من استكمال تلك المسيرة توا في الزمن الذي تواجه فيه غزة إبادة جماعية، وفي العالم الذي أصبح قرية صغيرة. لقد تغير كل شيء بعد السابع من أكتوبر، وها هي فلسطين، وحدها، تقاتل العالم: الولايات المتحدة الأميركية، وأوروبا متحدة وراءها، نعم، هذا هو العالم اليوم، ونحن لا يمكن أن نكون بعد السابع من أكتوبر كما كنا قبله، بل من الجنون والسذاجة والخيانة والانتحار أن نعيد البحث في متاهات الفكر الغربي، أن نصدق ونؤمن بهذا الإنسان الزائف السوبرمان الذي وعدونا أن نكونه، وحدثونا عن جنته الموعودة بين ثنايا مبادئهم حبرا على ورق، المبادئ التي عنونوا بها واجهات وأنصبة الجامعات والصروح العلمية والقانونية العريقة ثم باعوها كي ينالوا جائزة صهيونية بامتياز. لا يمكن بعد السابع من أكتوبر بل من الجنون والسذاجة والخيانة والانتحار ونحن اليوم في مرحلة تشكيكية، لاعقلانية، ألا نعيد بلورة قناعاتنا وتكوين موقفنا الثقافي من العالم الغربي بعدما تورطنا في فهمه بشكل متأخر وسيء.

مشاركة :