بالتأكيد رحيل قامة نقدية كبيرة بقيمة وإسهام الدكتورة سيزا قاسم يعد خسارة فادحة وعظيمة، منيت بها الحركة النقدية العربية مؤخراً، فسيزا قاسم (1935-2024) ليست مجرد ناقدة رائدة في تطبيقها أحد أشهر المناهج الحداثية «البنيوية» على أكبر وأهم نصوص نجيب محفوظ الروائية (الثلاثية)، ومقارنتها بنصوص أعظم كتاب الرواية الغربية في فرنسا وبريطانيا، ولا سباقة كذلك في تأصيلها لمنهج مميز في الدرس المقارن، إنما أيضاً كانت من أشهر نقاد الأدب العربي الحديث والمعاصر، ومن أهم من عُنوا بتقديم قراءاتٍ منهجية للتراث العربي في مستويات عدة وحقول مجالات مختلفة من هذا التراث. رحلت سيزا قاسم عن 89 عاماً بعد رحلة عطاء علمي وافر، مارست التدريس والكتابة والنقد، والتحرير العلمي والنقدي، والانخراط بنشاط وهمة في النشاط الثقافي والنقدي (ندوات، مؤتمرات، سيمنارات.. إلخ) منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وحتى ما قبل رحيلها بقليل، وأسهمت مع فريق بحثي متميز «خاصة رفيقة مشوارها بالجامعة الأميركية الدكتورة فريال جبوري غزول» في تدشين واحدة من أشهر وأهم المجلات المحكمة في الثقافة العربية، وهي مجلة (ألف) للبلاغة المقارنة التي تصدر عن الجامعة الأميركية بالقاهرة منذ 1980 تقريباً، وتصدر باللغتين العربية والإنجليزية. كانت الراحلة الدكتورة سيزا قاسم ممن يؤمنون إيماناً جازماً بأن علاقة «التلميذ/ الأستاذ» من العلاقات العزيزة والخاصة جداً في حياة المرء والتي إذا عرفها الإنسان بحقها حملها «وساماً» على صدره طوال حياته، دالاً على جذوره. وكان بواسع إطلاعها وثقافتها المشهود لها بها، تستشهد بتقليد علماء الإسلام الكبار؛ إذ كانوا يعرفون في كتب «السير والتراجم والطبقات» بذكر أسماء شيوخهم، فبقدر الشيخ يقوم المريد. - 2 - ومن ثم ظلَّت طوال عمرها تفخر وتفتخر بتتلمذها على يد الدكتورة سهير القلماوي أول فتاة تلتحق بالجامعة المصرية، وأول فتاة تتخرج فيها، وأول فتاة تحصل على الدكتوراه من الجامعة، ولهذا فدواعي الفخر والاعتزاز كانت تلازم سيزا قاسم، وتجعلها لا تفتأ تذكر تعلمها على يديها، وأنها تمثلت بدورها تجربتها في التتلمذ على يد طه حسين، ومتجاوزة المدى الأبعد في الدراسات التي أنجزتها تالياً بعد رسوخ قدمها، ونضوجها العلمي والمعرفي. في مقالٍ شهير لها تؤكد سيزا قاسم على انتسابها إلى ما تسميه «السلسلة الذهبية» في تواصل العلاقة بين الأستاذ والتلميذ أو الأستاذة والتلميذة (كما في حالتها هي وسهير القلماوي)، عاقدة أواصر هذه العلاقة النبيلة في شكلها الحديث والمعاصر بأسلافها وجذورها التراثية الشريفة، وكما عرف تراثنا العربي - الذي كانت تعتز به أيما اعتزاز وتفخر أيما فخر- ما تطلق عليه سلاسل «الإسناد» في الرواية والدراية وتتلمذ المريد على الشيخ، فإن واقعنا المعاصر قد عرف بدوره سلاسل «الأستاذية الحقة» في الجامعة الحديثة. وهي ترى أن تلك السلسلة الذهبية التي انتسبت إليها لم تبدأ مع طه حسين، ولم تنته مع سهير القلماوي، فكما يعرف «الإسناد» في التراث السلاسل الذهبية، فإن سلسلة الأستاذية الحديثة والمعاصرة لها أيضاً حلقاتها الذهبية. وتقوم عراقة الجامعات على هذه الحلقات، فالعراقة لا تكمن في الحوائط ولا المكتبات، ولكنها تتجذر في النفوس، تورث التقاليد والمشاعر والقيم عبر هذه الحلقات. ولا تكمن عراقة التقاليد في نقل ما أرساه الأوائل، بل في تطويره والبناء عليه لينمي اللاحق الصرح، ويقوي حلقات السلسلة ليستمر العطاء وتنمو المعرفة. وبالتالي، فإذا كانت سهير القلماوي محظوظة بأن تتلمذت على يدي العميد بشكل مباشر، فإن سيزا قاسم لم تكن أقل حظاً منها لأنها تتلمذت بدورها على يديها بشكل مباشر. وكان لسهير القلماوي فضل التحاق سيزا بجامعة القاهرة، عندما تدخلت بحسم مع أبيها (مثلما فعل طه حسين بالضبط مع والد سهير ذاتها لإقناعه بدخولها كلية الآداب)، فدخلت سيزا قسم اللغة الفرنسية في ستينيات القرن الماضي. - 3 - بعد تخرجها بالقسم ذاته (الأدب الفرنسي) سجلت للحصول على درجة الماجستير في الأدب الفرنسي، وهنا تدخلت سهير القلماوي مرة أخرى معترضة بشدة على اختيار تلميذتها ذاك، بل وأنبتها بشدة، محذرة من أن هذا الدرب سيفصلها عن «مجتمعها» ويدفعها إلى عزلة بين جدران الثقافة الفرنسية، مبتوتة الصلة عن مجتمعها وثقافتها الوطنية، ووجهتها نحو «الدرس المقارن»، لتصبح سيزا قاسم - من بعد ذلك - علماً في هذا المجال، بل ستؤسس ريادة حقيقية في أشكال متعددة ومناحٍ مختلفة من الدرس المقارن (الدرس الأدبي المقارن، والدرس النقدي المقارن، والتحليل النصي المقارن.. إلخ). ولم تكن سهير القلماوي ترتضي أنصاف المعايير أبداً، فقد رأت أن درس تلميذتها للغة العربية والأدب والثقافة العربية لم يكن مؤصلاً ولا قائماً على أسس متينة، فوجهتها توجيهاً علمياً «تأسيسياً» إلى دراسة اللغة والثقافة العربية، وطلبت منها الالتحاق بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة للحصول على شهادة ليسانس «ثانية» في اللغة العربية وآدابها، قبل أن تخطو أي خطوة ذات شأن في الدراسات العالية، في مجال الدرس المقارن. وقد كان هذا ما حدث بالفعل، فالتحقت سيزا مباشرة بالفرقة الثانية بكلية الآداب قسم اللغة العربية، وأمضت بقية سنوات الدراسة بها، إلى أن تخرجت بتفوق ونالت الليسانس الثانية، هذه السنوات تقول عنها سيزا قاسم: «فكان أن دخلت السنة الثانية في قسم اللغة العربية، وكانت سنوات ثلاث من أخصب وأمتع وأشق سنوات دراستي». وظلت سهير القلماوي طوال هذه السنوات، وبعدها، تشجع تلميذتها أيما تشجيع، وتدفعها إلى الأمام دفعاً إلى أن أوصلتها إلى مرحلة الدكتوراه بسلام، فكانت المشرفة على البحث الذي نالت به درجة الدكتوراه عن (بناء الرواية في ثلاثية نجيب محفوظ دراسة مقارنة). ومثلما فعلت سهير القلماوي مع غيرها من تلاميذها، تقبلت منها مدخلاً مختلفاً عن منهاجها، بل ودافعت عن اختيار تلميذتها دفاعاً مجيداً، خاصة أن هذا الاختيار لم يكن مرحَّباً به في قسم اللغة العربية آنذاك، ولا في الساحة الأدبية النقدية التي كانت تنظر باسترابة شديدة (وربما حتى الآن) إلى المناهج الجديدة و«الحداثية» في النقد الغربي المعاصر. ولم يكن يتصور - في ذلك الوقت - أن تقدم رسالة دكتوراه تتناول رواية واحدة، لأديبٍ ما زال على قيد الحياة، وتدرس عن طريق المنهج «البنائي» في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، أي ما يقرب من نصف القرن الآن على تدشين هذه الدراسة؟ تقول سيزا: «إني لم أحقق ما حققته إلا بفضل من ساعدوني وعلى رأسهم أستاذتي سهير القلماوي. لقد أحببتها، أحببت إيجابيتها، إقدامها، دقتها في العمل أخيراً، وليس آخراً أناقتها اللافتة. ولا أقلِّل من هذا الجانب الهام الذي يعطي للحياة معنى، فما فائدة دراسة الآداب والفنون، إذا كنا لا نستطيع أن نصبغ جميع نواحي حياتنا بلمسة جمال؟». - 4 - إن هذه الخطوط العريضة لمسار العلاقة بين سيزا قاسم وبين أستاذتها ليست مهمة في ذاتها، بقدر دلالتها على توجه عام ورؤية واضحة واستشراف نافذ للمستقبل في مجال الدرس النقدي والأدبي وفي شكل العلاقة الإنسانية معاً، تقول سيزا قاسم: «الأحداث لا تصنع التاريخ. لقد حاولت سهير القلماوي أن تحول «قسم اللغة العربية» بجامعة القاهرة إلى جسر متعدد المسارات بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، جسر يقوم على باحثين يختارون مناهج مختلفة تمثل تيارات متباينة في النقد الأدبي، بما يغني ثقافتنا ويضعها في قلب العالم المعاصر، لقد حاولت أن تجعل من قسم اللغة العربية بوتقة تنصهر فيها التيارات المختلفة من مناهج الحداثة في تناول الإبداع الأدبي، فأخذ كل باحث يدلي بدلوه من منطلقاتٍ مختلفة، عسى أن تتضافر الخيوط المتعددة لتنسج لوحة متكاملة للبحث الأدبي الحديث». ولم يكن غريباً بعد ذلك أن تنطلق سيزا قاسم إلى آفاق رفيعة في الدراسات التراثية، والدراسات المنهجية، والدراسات المقارنة على السواء، فتكتب بحثاً رائعاً عن «الخطاب التاريخي» من التقييد إلى الإرسال، تدرس فيه نصوص الطبري والمسعودي وابن خلدون، وتكتب عن «توالد النصوص وإشباع الدلالة» تطبيقاً على خطابات تفسير القرآن الكريم (نَشرت هاتين الدراستين مع مقالاتٍ ودراساتٍ أخرى في كتابها «شذور الذهب في التفسير والتاريخ والفن والأدب»، وصدر في 2023 عن سلسلة كتابات نقدية، الهيئة العامة لقصور الثقافة). كما تشترك مع المفكر الراحل الدكتور نصر أبو زيد في إعداد وتحرير أول كتاب بالعربية يعرف بأنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة «مدخل إلى السيميوطيقا»، وتقدم كتابها المرجعي كذلك «القارئ والنص» تبلور فيه نظرية للقراءة المنهجية، ومدخلاً للتحليل النصي، وتحليل الخطاب. - 5 - يمكن القول ختاماً عن سيزا قاسم، تلميذة سهير القلماوي الأخيرة، إنها سعَت مثل أستاذتها الجليلة (وقد نجحت في ذلك بكل تأكيد) إلى امتلاك جناحي «التأسيس» و«التكوين» اللازمين لأي باحث جاد وناقد أصيل، بالوقوف على قدم ثابتة وراسخة في أرض الثقافة واللغة الأم «اللغة العربية، والأدب العربي، والتراث العربي»، وبإجادة اللغات الأجنبية (كانت تجيد الإنجليزية والفرنسية بطلاقة)، واكتساب المنهجيات الحديثة، واستيعابها، وعرضها للقارئ العربي في ثنايا التطبيق المحكم على نصوص عربية. فنعم التلميذة كانت «سيزا قاسم»، ونعم الأستاذة كانت «سهير القلماوي».
مشاركة :