تطرح الحرب الإسرائيلية الوحشية ضد الفلسطينيين في غزة، حيث يقطن 2.5 مليون منهم، في ظروف صعبة، عدداً من الأسئلة، التي كانت الحروب السابقة أثارتها، مع التقدير للتضحيات والبطولات والمعاناة التي بذلت. يمكن اختصار تلك الأسئلة في الآتي: أولاً، هل يجوز لفصيل ما، سواء كان «فتح» أم «حماس» أم «الجهاد» أم أياً من الجبهات، أخذ الشعب إلى خيار سياسي أو كفاحي، مهما كان نوعه، وبمعزل عن مشاركة الشعب بالتقرير في هذا الخيار، أو الاستعداد له، أو تأمين المستلزمات له، علماً أن أغلبية الشعب الفلسطيني اليوم خارج الفصائل، وأن تلك الفصائل أضحت سلطة على شعبها، بكل معنى الكلمة، في الضفة وفي غزة؟ علماً أن الشعب الذي لا أحد يسأله عن رأيه، هو الذي يدفع الثمن الأكبر لأيّ خيار يأخذه أي فصيل، في المقاومة أو المفاوضة، في الحرب أو التسوية؟ والحديث على هذا النحو لا يتعلق فقط بأخذ الشعب نحو خيار الحرب، أو الحرب بين الحروب، أو الحرب الصاروخية، أو العمليات التفجيرية، وفقط، بل يشمل أخذ الشعب، وقضيته، نحو المفاوضات، من دون أي مرجعية وطنية، أو دولية، ومن دون أي ضوابط، أو ارتباط حتى بالحقوق المشروعة التي أقر بها المجتمع الدولي (كما حصل في اتفاق أوسلو). أي أن طرفي المعادلة، المتمسك بالتحرير، وبخيار الكفاح المسلح، أو المتمسك بالتسوية وبالخيار التفاوضي، يشتغلان من دون رؤية، أو استراتيجية وطنية جامعة، ويشتغلان كفصيلين، أو كسلطتين، من دون مرجعيات تشريعية، وفي الحالين فإن الشعب هو الذي يدفع الثمن، في مختلف المجالات. ثانياً، هل من المشروع سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً خوض معركة من نوع جيش مقابل جيش، أو صاروخ مقابل صاروخ؟ علماً أن الحديث هنا لا يتعلق بالبون الشاسع في القوة التدميرية، وفي عدد الضحايا وحجم الخسائر، بين الطرفين المعنيين، بل يتعلق تحديداً بالسؤال عن جواز ذلك عسكرياً، إذ من المفروض أن المقاومة، أي مقاومة الشعب، تنتهج استراتيجية الضعيف ضد القوي، وتحرص على تحييد القوة العسكرية الباطشة للعدو ما أمكن، وتجنيب شعبها ضرباته، وأنها أساساً تحاول ربح المعارك بالنقاط وليس بالضربة القاضية، التي لا تملك أدواتها أصلاً. وأساساً فإن ما يحكم صوابية شكل أو خيار معين، من عدم ذلك، هو أنه يجب أن يفضي إلى إضعاف جيش العدو أو استنزافه، والتأثير في مجتمعه، وليس العكس، بالتسهيل على العدو إضعاف الشعب أو مجتمع المقاومة واستنزافه. ومع مشروعية كل أشكال الكفاح، إلا أن لكل شكل ظروفه، ومعطياته، أيضاً، لا سيما لتأمين إمكان استثمار هذا الشكل أو ذاك وديمومته؛ وكل ذلك يفيد بأن المقاومة ليست عملاً مزاجياً، أو تجريبياً، كما أنها ليست شيئاً مقدساً، إذ هي تخضع أيضاً لحسابات الجدوى، والكلفة والمردود، والفحص والنقد والمساءلة. ثالثاً، لحسم النقاش، من منظور وطني سياسي وأخلاقي واستراتيجي، في تقييم أي خيار، يفترض التأكد من مسألتين، أولاهما، هل التحول نحو العسكرة والحرب الصاروخية سيعزز من النهوض الشعبي الفلسطيني من النهر والبحر، على غرار الانتفاضة الأولى مثلا، أو كما حصل في هبة الشيخ جراح مثلا (2021)، أم العكس؟ وثانيتهما، هل ستتمكن الفصائل الفلسطينية من تصريف كل تلك التضحيات والبطولات في فرض شروط معينة على العدو، أم ستكون النتيجة كالحروب السابقة، أو في أحسن الأحوال الاعتراف بتكريس سلطة غزة، وتكريس فصلها عن الضفة؟ بديهي أن ذلك يشمل السؤال عن استراتيجية التسوية والمفاوضات التي انتهجتها القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و«فتح»، إذ هي أخفقت أيضاً، فهي لم تنجح بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، بعد 30 عاماً من عمر اتفاق أوسلو، رغم كل التنازلات التي قدمتها، ما يبين أن ولوجها هذا الطريق انبنى على أوهام، أو مراهنات خاطئة، أيضاً. رابعاً، في كل مرة، في الحروب السابقة، كانت خطابات الفصائل، لا سيما «حماس» و«الجهاد»، تنحو نحو المبالغة بالقدرات الذاتية، وادعاء القدرة على إيلام إسرائيل، وزلزلة الأرض تحتها، مع الترويج لانتصار متحقّق، وفرضها على العدو ما تدعيه من «توازن الردع» أو الرعب، و«وحدة الساحات»، و«قواعد اشتباك»، وتخفيف الحصار، إلا أنها تتناسى في كل مرة أن إسرائيل لا تبالي بكل ذلك، وأنها في كل مرة تعيد الكرّة، وتكبّد الفلسطينيين خسائر باهظة في الأرواح والممتلكات، من دون أن تمكنهم من استثمار ولو قدراً بسيطاً من مقاومتهم، وتضحياتهم. والقصد هنا دعوة الفصائل إلى بعض التواضع في خطاباتها، وبعض الواقعية في رؤيتها لذاتها ولإمكاناتها، وللظروف المحيطة غير المواتية، وانتهاج استراتيجية كفاحية تتناسب مع إمكاناتها، وتنبع من قدرة شعبها على التحمل، استراتيجية مسؤولة ومستدامة ويمكن الاستثمار فيها. طبعاً فإن ما حصل في الأوهام المترتبة على الحروب الصاروخية، حصل إبان المراهنة على اتفاق التسوية، إذ روّج كثر وقتها (أواسط التسعينات) أن ذلك الكيان الناشئ (في الضفة وغزة) سيكون بمثابة سنغافورة أو تايوان، من دون التبصر بضعف هذا الكيان، وبواقع هيمنة إسرائيل عليه، من كل النواحي، كما تم الترويج لذلك إبان الانتفاضة الثانية، التي غلب عليها العسكرية والعمليات التفجيرية، لكنها انتهت إلى تعزيز الاستيطان في الضفة وحصار غزة وبناء الجدار الفاصل والامعان في تهويد القدس، وفرض إسرائيل هيمنتها من النهر إلى البحر. لا حاجة للفلسطينيين الذين يقاومون المشروع الصهيوني منذ قرن، مع كل معاناتهم وتضحياتهم وبطولاتهم إلى مبالغات، ولا إلى أوهام، فهم أحوج إلى استراتيجية سياسية وكفاحية واقعية تمكنهم من الصمود في أرضهم، وتعزيز وحدتهم كشعب، وتمكنهم من استعادة حقوقهم الوطنية المشروعة، المتأسسة على التطابق بين الشعب والأرض والقضية. ____________________________ شاهد | البث المباشر لقناة الغد
مشاركة :