لم تكن حرب غزة الدائرة، منذ أكثر من أسبوع، خارج السياق، فهي الحرب السادسة بعد حروب عديدة (2008، 2012، 2014، 2018، 2021) شنتها إسرائيل على الفلسطينيين، والذين تستهدفهم بالقصف بين فترة وأخرى، فتدمر بيوتهم وممتلكاتهم وتقتل شبابهم، والذين فرضت الحصار عليهم منذ العام 2006، بعد أن حولت قطاع غزة، الذي يقطن فيه مليونان من الفلسطينيين، إلى سجن كبير تسجنهم فيه، أمام سمع العالم وبصره. الآن، أتت هذه الحرب بمبادرة من حماس، التي تهيمن على قطاع غزة بشكل أحادي منذ العام 2007، وهي عملت طوال ذلك الوقت لتعزيز قدرتها العسكرية، أكثر مما عملت، كسلطة، على تحويل قطاع غزة إلى منطقة تدير فيها الفلسطينيين، وتطور قدراتهم وامكانياتهم، كمجتمع، كاقتصاد، وكنموذج للدولة، بأفضل مما تقوم به السلطة التي تديرها حركة فتح في الضفة الغربية. في كل الأحوال فإن تلك المبادرة إلى الحرب، التي فاجأت وأوجعت إسرائيل بشكل غير مسبوق، وأكثر مرة في تاريخها، لا تعني أن الفلسطينيين كشعب هم الطرف المعتدي، لأن إسرائيل منذ إقامتها، قبل 75 عاما، شكلت حالة عداء سافر للفلسطينيين، فهي المسؤولة عن تشريدهم، واقتلاعهم من أرضهم، وحرمانهم من هويتهم الوطنية، ثم هي المسؤولة عن تمزقهم كشعب، وفوق ذلك فهي، حتى على مستوى وضعها أمام المجتمع الدولي كدولة احتلال في الضفة وغزة (تبعا لاحتلالها تلك الأراضي في العام 1967)، فهي ظلت طوال تاريخها، أي منذ 56 عاما، تضرب عرض الحائط بكل القرارات والمعايير الدولية، وهي استمرت في ذات السياسة حتى بعد عقد اتفاق أوسلو، المجحف والناقص والمهين، بما يخص حقوق الشعب الفلسطيني، قبل ثلاثة عقود، وذلك بتهربها من استحقاقاتها في هذا الاتفاق، وبإصرارها على الاستيطان في كل شبر، وانتهاجها سياسة هدم البيوت والاعتقال التعسفي، والقتل ومصادرة الأراضي، وكل ذلك لتكريس واقع الاحتلال وإخضاع الشعب الفلسطيني لإملاءاتها. وعلى أية حال، وبحسب حتى محللين إسرائيليين مثل جدعون ليفي، وقادة رأي مثل ابراهام بورغ، ومفكرين مثل ايلان بابيه، فإن إسرائيل باتت تظهر كدولة قومية دينية متطرفة، وسياساتها إزاء الفلسطينيين تشبه سياسات النازية في البلدان التي احتلتها في أوروبا (بورغ)، وإن تحويل الفلسطينيين إلى سجناء في معتقل كبير مثل غزة لابد سيولد المقاومة، التي ستزعزع الجدران (ليفي) وأن إسرائيل باتت تحت سيطرة التيار القومي الديني المتطرف دولة أبارثايد (بابيه). لذا فبغض النظر عن مسؤولية حماس عن هذه الحرب، لجهة تهيئة شعبها للتداعيات الناشئة، ولجهة دراسة ردات الفعل الإسرائيلية الممكنة، وضمنه الأثمان الباهظة، البشرية والمادية والسياسية التي يمكن أن تنجم عن دخول المقاومة في حرب، جيش لجيش، وهو أمر ينبغي تفحصه، أو التحفظ عليه، بحسب التجارب التاريخية، وضمنها تجربة الشعب الفلسطيني، فإن المقاومة الفلسطينية، أي مقاومة الشعب للظلم والاستيطان والاحتلال والعنصرية هي عمل إنساني ومشروع. على أية حال من المبكر التكهن بمدة ومآلات وتداعيات حرب غزة، إسرائيليا وفلسطينيا وعربيا وإقليميا، علما بأن حرب إسرائيل الأولى على غزة (2008) استمرت 21 يوما، ونجم عنها مصرع 1200 من الفلسطينيين مقابل 13 إسرائيليا، في حين الثالثة (2014) استمرت 50 يوما، ونجم عنها مصرع 2100 من الفلسطينيين مقابل 70 إسرائيليا، مع دمار هائل في البني التحتية والبيوت والممتلكات في غزة، في الحربين. أما الحرب الحالية، وفي أسبوع واحد فقط، فقد نجم عنها مصرع 2300 فلسطيني مع عشرة أضعافهم من الجرحى والمصابين، وحوالي نصف مليون نازح، وتدمير أحياء كاملة في غزة، في مقابل مقتل 1300 إسرائيلي (أكبر عدد في الخسارات البشرية في تاريخ إسرائيل). ويستنتج من ذلك أن الفلسطينيين في غزة، باتوا في مواجهة حرب وحشية من قبل إسرائيل، المدعومة من الغرب، تقوم فيها بسياسة الأرض المحروقة، في محاولة منها لاستعادة هيبة جيشها، وتوفير الشعور بالأمان لمواطنيها، المستعمرين والمستوطنين، وهي حرب تتوخى إسرائيل فيها تمرير سيناريوهات عديدة، ضمنها مثلا إفراغ النصف الشمالي من غزة، بدفعهم إلى الجنوب، أو إلى سيناء (ما يذكر بمشاريع التوطين القديمة في سيناء)، وربما إحكام قبضتها في القدس، بإحداث نوع من تغيير ديمغرافي في ظل الحرب، وبمعية ميلشيات المستوطنين المتطرفين، أو أي سيناريو آخر يؤدي إلى إخضاع الفلسطينيين تماما لما تريده إسرائيل، وفرض السيادة الإسرائيلية من النهر إلى البحر، مع إبقاء السلطة كمجرد ديكور، أو كشاهد زور. الآن، ومع التقدير للبطولات والتضحيات، فما جرى لا يغطي حقيقة أن الزمن الفلسطيني والعربي والدولي الراهن ليس زمن تحرير فلسطين، ومن غير المعروف كيف اتخذت قيادة حماس، قرار الحرب بهذا الشكل، والمعطيات التي دفعتها إلى هذا الخيار، مع محدودية الإمكانيات، مهما كانت، بالقياس لإسرائيل، ومع افتقار مليوني فلسطيني للقدرة على العيش في منطقة ضيقة وفقيرة وتفتقد للموارد، تشكل 1.3 بالمئة من مساحة فلسطين، و6 بالمئة من مساحة الضفة، ففي ذلك تحميل لمليوني فلسطيني أكثر من قدرتهم على الاحتمال، إذ ثمة فرق كبير بين الحرب والمقاومة، كما ثمة فرق كبير بين معركة تحرير، ومعركة إنهاك واستنزاف الاحتلال.
مشاركة :