لم تعدْ مقولةُ «إذَا كبرَ ابنُكَ خَاوِيه» صالحةً للتطبيقِ في أيامنَا هذِهِ؛ لأنَّ هناكَ عواملَ كثيرةً صنعتْ جفوةً أو فجوةً بينَ الأبناءِ والآباءِ. فالمخاواةُ أصبحتْ بعيدةَ المنالِ بالنسبةِ للآباءِ. فالأبناءُ اليومَ تتفرَّدُ بهِم نظمُ حياةٍ جديدةٍ، وبعضُهَا افتراضيٌّ مع أجهزةِ التقنياتِ الإلكترونيَّةِ، فَهُم يتقلَّبُون بينَ «سناب شات»، و»إكس»، و»فيس بوك»، و»تيك توك»، و»واتس آب»، و»يوتيوب»، وجميعُ ما يخضعُ للإنترنت، والمشكلةُ ليسَت بالأجهزةِ، إنَّما في البثوثِ والبرامجِ والمتابعاتِ، وما تقدِّمهُ تلكَ الأجهزةُ من تسيُّباتٍ وأفكارٍ وتشوُّهاتٍ وتشتُّتاتٍ وتفاهاتٍ، ومن كلِّ مَا هبَّ ودبَّ، والمشكلةُ الأكثرُ تعقيدًا هي الإسرافُ في قضاءِ الوقتِ الطويلِ بينَ تلكَ الوسائلِ والرسائلِ؛ ممَّا يجعلُ الأبناءَ في حالةِ إدمانٍ على المشاهداتِ والمتابعاتِ، فبالتَّالي لديهِم البديلُ عن الآباءِ، والانصرافُ في قضاءِ وقتٍ مع غيرِهِم، وذلكَ كلُّه يُعدُّ سببًا في تعميقِ الفجوةِ والجفوةِ بينهمَا، فإذَا أُضيفَ إلى ذلكَ الجرعاتِ الزائدةِ من الانصرافِ إلى الأصدقاءِ والأصحابِ من كلٍّ من الأبناءِ والآباء، فلم يعدْ يهمُّ كلُّ واحدٍ منهمَا التَّواصلَ وقضاءَ وقتٍ أكثرَ مع بعضهِمَا، وهذَا أحدُ الأسبابِ التي تزيدُ من مساحةِ الفجوةِ والجفوةِ بينهمَا.ولعلَّ اعتبارَ التباينِ بينَ الآباءِ والأبناءِ في أساليبِ الحياةِ والأفكارِ والثقافةِ سببًا آخرَ لتلكَ الفجوةِ والجفوةِ ومعزِّزًا لهَا، بالإضافةِ إلى ما يلاحظُهُ الأبناءُ من قسوةِ التَّعاملِ أو التَّباعدِ بينَ كلٍّ من الآباءِ والأُمَّهاتِ التي قدْ تصلُ إلى حالاتِ الطَّلاقِ والخُلعِ، حيثُ هذَا ذُو تأثيرٍ بالغِ الأهميَّةِ في تمكينِ الفجوةِ والجفوةِ بينَ الأبناءِ والآباءِ، بالإضافةِ إلى أسبابِ الحياةِ الماديَّةِ والبحثِ عن الرزقِ والوظيفةِ كأنْ يكونَ الآباءُ في مدينةٍ، والأبناءُ في مدينةٍ أُخْرَى بعكسِ أيامِ زمانٍ، كانَ الأبناءُ قريبِينَ من آبائِهِم، وبعضٌ ممَّا يذكرُ من أسبابِ الجفوةِ يعودُ إلى زوجاتِ الأبناءِ، وما يُسببنَهُ من إحداثِ شرخٍ بينَ الأبناءِ والآباءِ، ورغبةِ تحقيقِ التَّباعدِ بينهمَا وحبِّ الاستحواذِ على الأزواجِ بعيدًا عن أهلِهم.ولعلَّ هناكَ أسبابًا أُخْرى أساسيَّة، أو ثانويَّة خلفَ التَّباعدِ الملاحظِ بينَ الأبناءِ والآباءِ، وهذَا كلُّه لَا يعنِي أنَّ المجتمعَ خالٍ من النماذجِ في العلاقاتِ المتميِّزةِ بينَ الآباءِ والأبناءِ، ولكنْ نحكِي هُنا مَا بدأَ يظهرُ من تباعدٍ حقيقيٍّ، وأتمنى أنْ يتولى مثل هذا الأمر دراسة اجتماعية تظهر حجمها، وتبحث في أسبابها، وتضع الطرق لعلاجها، ويمكن أنْ يوظف لذلك أحد موضوعات طلاب أو طالبات الدكتوراة في أحد أقسام علم الاجتماع أو علم النفس؛ لأنَّ رصد الجديد من المظاهر الاجتماعية، وما يستجد على الساحة هي أحد مهام الباحثين الاجتماعيين والنفسيين.فهلْ طبيعيٌّ أنْ تكونَ هناكَ فجوةٌ وجفوةٌ بينَ الآباءِ والأبناءِ؟ وهلْ التَّباعدُ الذي يحسُّ بهِ العديدُ من الآباءِ اليوم والمتمثِّلِ في الجفاءِ وعدمِ الحرصِ على أداءِ واجبِ الالتقاءِ بهم والاكتفاءِ فقط على تحقيقِ المصلحةِ الماديَّةِ، وتسديدِ الفواتيرِ ومصروفاتِ الأكلِ والشُّربِ والاحتياجاتِ الأُخْرى دونَ أي اعتبارٍ للجلوسِ والحديثِ معهم وفتحِ بابٍ للحوارِ واللقاءِ فهلْ كلُّ هذَا طبيعيٌّ؟ أمْ أنَّ الأمرَ مبالغٌ فيهِ ومحدودٌ وفي شريحةٍ محدَّدةٍ؟ هذَا الذِي ينبغِي أنْ توضِّحه الدِّراساتُ والأبحاثُ الاجتماعيَّةُ المطلوب إقامتهَا.
مشاركة :