يبدو أنّ الخطوة التي أقدم عليها فايز السرّاج رئيس حكومة الوفاق الليبية، بالوصول صحبة عدد من أعضاء حكومته إلى طرابلس، ومباشرة عملها، حتى من دون نيل ثقة مجلس النواب، كانت الخطوة التي كان يجب أن يقوم بها منذ فترة، حتى يدفع جميع الفرقاء إلى الانصياع إلى الأمر الواقع، ويفرض عليهم الوفاق فرضاً، بعد أن أصبح تهديد الميليشيات المسلحة وتنظيم داعش، أمراً لا يقبل أي تأخير. جرأة فايز السراج في التوجه إلى ليبيا والتجول في شوارعها وأداء صلاة الجمعة في أحد مساجد وسط العاصمة، يعبّر عن أن الرجل قد حسم أمر قيادة بلده والخروج بها من الأزمة المستمرة منذ خمس سنوات. وهذه الخصال، فضلاً عن الدعم الدولي الذي تجده حكومته، هما عاملان كفيلان بجعل كل الأصوات المتعالية والمستفيدة من حالة الفوضى، تخرس وتعود إلى مخابئها، بل تتغيّر مواقفها بسرعة البرق. انصياع الحكومة المسيطرة على العاصمة طرابلس، التي يقودها خليفة الغويل، وتحظى بدعم من المؤتمر الوطني العام بقيادة نوري بوسهمين الإسلامي المتشدد، لا تتحكم في الواقع سوى في بعض أجزاء من طرابلس، وبعض المدن التي يتغلغل فيها بعض المتشددين مثل مدينة مصراتة. ورغم محدودية سيطرتها على الأراضي الليبية، إلا أن وجودها في العاصمة مكّنها من السيطرة على مقرّات الوزارات وعلى البنك المركزي وعلى مقرّ المؤسسة الوطنية للنفط، التي هي عصب الاقتصاد الليبي. حكومة الغويل عارضت مفاوضات السلام في الصخيرات، ولم تعترف بما نتج عنها من وفاق سياسي، وهدّدت فايز السراج إن حاول دخول العاصمة طرابلس، غير أنها سحبت كل التهديدات في ساعات معدودة، وبدل الحديث عن الطرد أو الاعتقال، قالت الحكومة غير المعترف بها دولياً، إنها لن ترفع السلاح في وجه فايز السراج، وإنها ستعارض معارضة سلمية. فالغويل يدرك جيّداً أن الحكومة الجديدة مدعومة بقوة من مجلس الأمن ومن أطياف المجتمع الدولي كافة، وأن معارضتها، أو منعها من أداء مهامها يعني مواجهة العالم. لكن الأهم من هذا، هو أن دخول السراج طرابلس من دون أدنى مقاومة من حكومة الغويل يكشف عن توازنات قوية تميل لكفة السراج. فالخبراء المتابعون للشأن الليبي، يعرفون أن الوضع في طرابلس تغيّر منذ معركة المطار، وأن التوافقات بين الزنتان ومصراتة، دفعت بالكثير من الميليشيات إلى تفضيل الوحدة على الصراع والتقاتل، ولذلك لعبت مصراتة دوراً مهماً في قيادة مفاوضات ماراثونية بعد وصول السراج إلى طرابلس ومنعت تصعيد الوضع، بل ساهمت في انصياع مجموعة خليفة الغويل إلى الأمر الواقع. إذ أفادت مصادر محلية بأنّ حكماء من مختلف المدن في غرب ليبيا والمجلس العسكري في مصراته لعبوا دوراً بارزاً في تهدئة التوترات بين مؤيدي حكومة الوفاق ومعارضيها. عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي، ومقرّه طبرق والمعترف به دولياً، قال في تصريحات متلفزة إنه ليس أمامنا سوى الامتثال لإرادة الشعب، ونرحب بتشكيل حكومة الوفاق الوطني من حيث المبدأ. لكنه قال إن ذلك يجب أن يكون عبر القنوات الدستورية والمؤسسات الشرعية وعلى رأسها مجلس النواب، السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد. وأوضح رئيس مجلس النواب الليبي أنه يجب على رئيس مجلس الوزراء فايز السراج أن يعرض أسماء وزراء حكومته على مجلس النواب لتنال الثقة قبل بداية عملها. وكان مارتن كوبلر قال في وقت سابق إنّ حكومة السراج سوف تمر سواء وافق البرلمان الليبي أو لم يوافق. ما الذي سيحدث الآن في ليبيا؟ السؤال منطقي بالنظر إلى أنه لا شيء يمكن توقعه في بلد يعيش منذ سنوات على وقع فوضى السلاح وفوضى الميليشيات. لكن العارفين بدقائق الشأن الليبي، يعتبرون أنّ وصول حكومة السراج إلى طرابلس، هو خطوة مهمة على طريق التسوية السياسية وإنهاء الأزمة الليبية، وعليه يمكن استقراء جملة من الملاحظات في هذا الشأن: - لم يتوجه السراج إلى طرابلس إلا بعد أن تيقّن من وجود دعم قوي له في هذه المدينة، وغيرها من مدن الغرب الليبي ذات النفوذ العسكري والمالي والبشري، أيضاً. بمعنى أنه لم يغامر بالتجول في طرابلس إلا بعد أن أيقن أن موازين القوى قد مالت لصفّه، وأن حجم التأييد للمجلس الرئاسي، سيتضاعف بعد ظهوره في طرابلس وهو ما تم فعلاً. - المجلس الرئاسي، سيعمل في الفترة القادمة على بسط نفوذه واسترجاع مؤسسات الدولةكافة، من دون الدخول في مواجهة عسكرية مع الميليشيات. وهذا سيتزامن مع تواصل مع مجلس النواب، لإذابة الجليد وللاتفاق على مسار سياسي، يعيد بناء مؤسسات الدولة. - سيسعى السراج إلى استمالة القبائل الليبية، وهي القوى ذات النفوذ الفعلي على الأرض. وقد بدأت بعض القبائل فعلاً بإعلان تأييدها للمجلس الرئاسي ودعمه. وإذا ما نجح السراج في ذلك، فإنه قد يكون خطا خطوة كبرى نحو توحيد الليبيين، ومباشرة عملية البناء الكبرى. - على المستويين العسكري والأمني، فإن السراج سيعمل على إنهاء الجدل بشأن مؤسسة الجيش، وبشأن رئاسة الأركان. وكان السراج أعلن عن أن الفريق خليفة حفتر هو جزء من الحل السياسي في ليبيا. ورغم أن بعض أعضاء المجلس الرئاسي، لهم مواقف عدائية تجاه حفتر، فإنهم سينصاعون في نهاية المطاف للوفاق وللتوازنات الجديدة. - على المستوى الاقتصادي، ينتظر المجلس الرئاسي، أن يستكمل بسط نفوذه على مؤسسات الدولة، حتى يقع الإفراج عن أصول مالية بقيمة 63 مليار دولار وقع تجميدها منذ العام 2011، وهي ودائع تعود لصندوق الثروة السيادي الليبي. وهذا الإفراج عن الأصول الليبية، سيكون له أثر كبير في انفراج الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، الذين باتوا يواجهون ضائقة معيشية نتيجة غياب السيولة المالية ونتيجة انهيار العملة الوطنية في مقابل الدولار، ما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار المواد الاستهلاكية. - على المستوى الخارجي، تجد حكومة السراج دعماً دولياً قوياً، وهي تجد دعماً قوياً أيضاً من دول الجوار، وهذه عوامل أساسية لتهدئة الوضع الداخلي وللتفرغ لمحاربة تنظيم داعش. حكومة السراج، غامرت بدخول طرابلس، وهي مغامرة ناجحة، ستغيّر الوضع الليبي بعد سنوات من الفوضى. kamelbelhedi@yahoo.fr
مشاركة :